أخبار المؤلفين والكتابالبحث

دراسه عن ديوان العامية المصرية “بتجرب تانى تموت” للشاعر عبداللطيف مبارك

قامت الناقدة فكرية غانم، بكتابة دراسة نقدية لـ “بتجرب تانى تموت”، هو ديوان شعر بالعامية المصرية للشاعر عبد اللطيف مبارك، مشهدية الروح والجسد بين الموت و الحياة، وخلال السطور القادمة نستعرض الدراسة ..

حين تكون اللغة معراج الشاعر فإن السماوات درجات؛ ولذا كان فردوس الديوان لغة تمتشق السمو وتجرد العامية من ماهيتها لتصل إلى مزج فلكى تتعانق فيه الفصحى الغير معجمية مع مقاربات تخلق عامية فصيحة. واللغة هنا ليست مفردات فحسب، بل دلالات سياقية و مشهدية تتناغم ألوانها بين المرئى واللا مرئى تاركاً لنا فضاء التلقى الذى يولجنا فى مضيق تحمل أجواؤهُ مفاتح الخلاص .

فكرية غانم

استهلال

“سيدتى القصيدة “كتابة فصيحة تتصدرالديوان المكتوبة قصائده بالعامية. فالإبداع يختار لغته. هنا يخرج لنا الشاعر قضية العشق فى حياته والتى تناغمت فيها مفردات البقاء بين السويس، والقصيدة والانتماء سبيلاً إلى الخلاص. ويدهشك القارئ العزيز أن العلاقات فيها اشتباكية تجذبنا نحو التشويق لفك الرموز والوقوف على الدلالات المنطقية التى لا تنقصها الحبكة الموضوعية التى تنير النص.

وكأنك أمام برعمة يتفتح جمالها اللحظة تلو اللحظة ” فلتسقط من جبهتى هالات وجد  السويس” هكذا بدأ النص وانتهى بهذه المفردة التى كان لها غموض السحر فى المساحة الفضائية فى صياغة شجية يقدم فيها الشاعر نفسه لديوانه.

الموت حياة

شاعران وموت غير بليد:-

لأنى أعرف كليهما الشاعر عبد اللطيف مبارك ( شاعر الديوان ) والشاعر كامل عيد رمضان المهداة إليه القصيدة التى تحمل عنوان الديوان بتجرب تانى تموت ولأنى كنت أشير دائما من طرف خفى أن هناك رابطٌ يخرج بى من عالم عبد اللطيف إلى عالم كامل عيد من جدية الشخصية والاحترام حتى فلسفة الحياة والموت، أرى أن هذا الخط الفلسفى المنبثق من الموت هو الذى جمعهما فى هذا الديوان بالإضافة إلى العامية المموسقة .

التشكيل الفنى

حتى أن الغلاف جاءنا ببيكاسو فى لوحته الشهيرة عازف الجيتار العجوز 1903 المعروضة بمعهد شيكاغو للفنون.والعازف الممسك بآلته الموسيقية فيما عرف بالمرحلة الزرقاء ولا يمكنك أن تفرق فيما ترى بين فكرتى الموت والحياة ؛ وقد أراد من خلال استخدامه ذلك اللون بالذات تصوير الحالة النفسية التي كان يمرّ بها آنذاك. وهي مزيج من الحزن والسوداوية والبرود، نتيجة ظروف عدة عاشها بيكاسو كان من أهمها انتحار أحد أصدقائه المقربين. وفي هذه اللوحة تمكن بيكاسو من التعبير ببراعة عن التدهور الجسماني والمعنوي للشخصية موضوع اللوحة. هنا يبدو العازف العجوز الأعمى بملابسه الرثة وجسده الكليل وهو يعزف على جيتاره بلا اهتمام، وقد اتخذ وضع جلوس غير مريح وبدا كما لو أنه لا ينتظر أي عزاء أو إشادة من العالم المحيط به، أو كما لو أن الحياة تسربت من جسده الشاحب ولم تعد تعني له شيئا.

واستخدام اللون الأزرق مثَّل مرحلة بيكاسو الزرقاء التى تعد رمزا للسوداوية والحزن وخلو الحياة نفسها من أي معنى أو هدف. ولعلك عزيزى القارئ حين ستدهش بالمعادل الموضوعى بين الغلاف وموضوعات الديوان نفسه لأن الفن التشكيلى لم يقتصر على صورة الغلاف فحسب بل امتد إلى الحرف والكلمة وكذلك السياق؛ فالشاعر هنا يشكل بروحه المتألمة مشاهد للموت أو الحياة أو كليهما معاً ممتزجين فى حالة مشهدية عالية فالابيجراما رقم (27) فيها : دمى اللى فاضل، سايب الأثر، على كل شئ، إلا إنه، مقدرش يهرب، زى جسمى اللى اتمحى.

أهى حالة غياب أم حضور؟ هذا التشكيل البارع يدلل موضوعياً على ماهية الفن والإبداع.

فتطل دهشة من بين وشوش الخلق وانتى بترسمى آخر ألم، بيطل من شباك قلوبنا، وإن كان بيكاسو قد حسم الأمر باستخدامه للون الأزرق بشكل كلى فى اللوحة غير أن المخرج الفنى هنا قد استبدله باللون البنى.

وفى محاولة الربط بين هذه الإحالة وبين موضوعات الديوان سنكشف عن ارتكازاتٍ للنماء المرتبط بلون الطين فى مفردات الشاعر كمثل ( الشجر، الزروع، نبتهم، أرضك، طاوية السنابل طرح من غيط الأمل، يروى، يمطرها، رطبى، الجنة، حته مخضره شجرة زتون) فبرغم وجود الشوك ظل الشاعر ينتصر للنماء والحق والجمال.

العنوان والدلالة :-

ثلاث مفردات : التجريب، التكرارية، الموت، لكل مفردة دلالتها الخاصة بها

“بتجرب” أى تقوم بفعلٍ لم تقم به من قبل وهو يحتمل النجاح أو الفشل

“تانى ” أى بشكل مكرر

“تموت ” أى تغيب عن الحياة لمرة واحدة

وسوف لا تكون هناك علاقة على المستوى الدلالى بين الثلاث كلمات منطقياً إلا إذا جاء السياق مفارقاً مدهشاً يشف عن علاقات فى منتهى التعقيد بين محاولات التجربة المتكررة فى الرقصة المتألمة لشاعرٍ يعزف الموت بأصابعٍ حية فى قصائد لم تتركنى للكتابة أبداً حيت أنها غلفت روحى بالمتعة حال القراءة فلم أخطُ خارج نطاق غموض عبيرها حتى أفعمنى الشجن ، وأدهشنى القفز على المألوف ليؤكد للجميع أن “سقف البيوت “الذى استطاع أن يصد “ألوف حناجر “كما بينت إحدى قصائد الديوان تصدى لقضية “سقف الإبداع” التى قُتِلت سفسطةً حيث أكدتها تجربة عبد اللطيف مبارك فيما مزج بين الابيجراما والقصيدة العامية وكذلك الشعر الغنائى وفيما كان يستخدم من مفردات وسياقات تتناغم بين الفصحى والعامية وتتراقص على موسيقى تجمع كل هذا الزخم المتراكمة أمزجته ، والحديثة أطره .ولعلى أرى رابطاً روحياً بين شاعرنا وشاعر غنائى معاصر تحدثت أغنيةٌ له عن تجريب الموت وهو الشاعر خالد أمين حين قال :

“كان نفسك تصرخ فى العالم ملقتش في قلبك صوت !

ضحيت بحياتك و الظالم بيجرب فيك الموت

الشاعر عبد اللطيف مبارك

جربت تموت ؟

ولا عجب أن يستوقف الموت الشعراء المعاصرين كما استوقف الشعراء والروائيين والمسرحيين على مر العصور.

والموت يعتبر ملمح هام من ملامح القلق الوجودي.إلا أن الشاعر عبد اللطيف مبارك لا يمثل كافكا فى قلقه الوجودى حيال الموت.

فلو أنه الموت الفيزيقى لكان مرة واحدة ، ولكن الموت المعنوى قد يتكرر بألوان مختلفة وهذا ما عرض له شاعرنا باستثناء هام ألا وهو الوجه الآخر للعملة ؛ الحياة أجل إنه ديوان ينبض بالحياة.

قضية الخطاب فى الديوان :-

من هو المخاطب الذى يتوجه الشاعر لمخاطبته …؟

الآخر – الذات – الوطن – الحياة – الوعى الجمعى.

ولا يمكن لأحدنا أن يحد وسط هذه السياقات معنى أحادى الدلالة، بل إنه الامتزاج. فهو حين يتحدث إليك يخاطب ذاته، يخاطب الوعى الجمعى مشيراً إلى وطن يدق أجراس الغياب.

معانى للموت :- يقسم الشاعرديوانه بتصنيف الموت كالتالى :

القسم الأول: من القصائد “موت أول ”

القسم الثاني: “موت بطئ”

القسم الثالث: “موت أخير”

القسم الرابع: “موت حقيقى “فى قصيدة (دم القتيلة)، (هروب أخير)،( من أجلك أنت).

القسم الخامس” موت بطعم الحياة “(الثورة )و(شهيد) وثلاث قصائد عن شعراء منهم من رحل عن عالمنا تاركين كل ألوان الحياة وهم محمود درويش و كامل عيد رمضان بعنوان ( جدير بحلمك ) – (بتجرب تانى تموت ) – و طاهر البرنبالى بعنوان ( طاهر )”

نجد أن هناك معانٍ ومعان للموت

1- الموت سبيل إلى اللقاء “موتة تانية ونتقابل ”

2- الموت تجربة “بتجرب تانى تموت ؟ ”

3- الموت تعطيل الحلم ” أملك يموت جواك – الجوانية يمكن أن تكون مقبرة للأمل”

4- الموت شدة الإعجاب “حلاوه وضفاير لساها شنقانى ”

إن كان علم المصريات يدرس عالمياً ، فإن المصرى الأصيل لم يستطع التخلى عن قيمه وحضارته التى تستلهم وجودها من البرديات القديمة والمعنويات المعاصرة الممتدة بجذورها إلى العمق ففى الابيجراما49نرى شاعرنا يقول :

” ما تقطعش شجرة ”

” ماتقتلش بين شفايف كلمة”هنا نجد أن بمقدور الشاعرأن يجمع بين تأصيل الحديث وتحديث الأصيل

مفردات للموت

إن استخدام الشاعرلمفردات تؤيد قضية الديوان الأولى لم تأتِ مصادفة ، وإنما جاءت بعد جهد فى الإنتقاء المضفر بأحاسيس مبدعة وليست مصنوعة كما فى :

مشنقة – القتل – لدغة العقرب – تفيض روحى – ماصة الدم – يسيح دمك – الضريح – ومتغمى حبال الموت

هو بالفعل نسيج لبيئة متوائمة مع الفكرة الرئيسية يشعرك بمنتهى الإخلاص الكامن بين الحلم والواقع ؛ ليعود بك مرات ومرات إلى المشهدية التى ترسم عالم “بتجرب تانى تموت ”

ولعل البطل فى ذلك النسج المتفرد هو الترميز الذى يعلو بالمجاز متشحاً بالتلميح تارات وبالتصريح تارة .

الخلاص

أوجه عدة تمثل الخلاص لكل الإشكاليات المطروحة تضمنتها التراكيب الموحية من ناحية ، فى حين صرحت بها اللغة من ناحية أخرى

ومنها :ستجد قمح للحياة واقترانه بالنماء

“عمرك شفت رحاية موت ؟

اللى بتطحن قمح حياة لرغيف الصوت

بين رئتين الشاعر كانت دايرة لحد الموت”

التصريح بكلمة الخلاص هنا نشير إلى الوجود المفعم بالحياة

46 تلحم طوفان النبض فى حلقة خلاصك: ( للفتى حلم الحياه ، استنظروا، امتى لفجر الابتدا، روحك بتعدى لمنافذ صعبة، ضمتها البريئه كانت خلاص، غنوتك، ناولونى فرحة ملايكة يثبتوا قدمى، ناولونى قلمى لجل م اكتب بيه قصيده، لسه حلمك م انتهاش)

بطولة مفردة (بتعدى – يعدى ) مفردة تحمل جواز سفر فى نطاق المشروعية.

تخترق الجمود بثورة ، نعبر إلى اللامحدود بفلسفة شاعر شديد الإيمان بوطن ملئ بالمتناقضات، منوط بحمل الكلمة، الخلاص .. وددت عزيزى القارئ لو أنك معى تبتهج عقلياً بفكرٍواعٍ وروح متقدة بقراءة بتجرب تانى تموت.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى