إبداعاتالأخبار الثقافية

الحـــالة 316

قصة – سمير الفيل:

وقع عم أحمد النشار ، وكان يجري على ثلاث بنات ، فخلفته كلها منهن . شالوه بأيديهم ، ووضعوه في عربة حنطور ، وصعدوا به السلالم ، دقوا الباب ، فتحت زوجته ، وكادت ترقع بالصوت الحياني ،غير أن لويس بقطر أشار لها أن الموضوع لا يستحق ، وأن الأمر مجرد إرهاق بسيط ، بعدها يخف ، ويقوم كالحصان ، فردت الباب خلفهم ، وهي تنتحب ، وارتمت على حافة السرير النحاسي ذي الشخاليل ، وانهمرت دموعها فبلت الوسادة التي عليها رأس زوجها . كانت البنات في كلياتهن الجامعية ، وهي برأسها ، وحيدة ، لاخبرة لها بهذه الأمور ، فارتبكت ، ولم تدر ماذا تفعل مع الرجل الذي كان ممددا ، ويصدر صوتا كالشخير من فمه المفتوح على الآخر . صرخت في جارتها أم علوي : “ألحقوني ياناس .. الرجل هيضيع !! ” .

لحظتها كان بقطر وسعود البنا ، ومعهم خالد الشاب ابن المعلم قشطة قد جاءوا بالطبيب في تاكسي أجرة . خبطوا الباب الموارب أصلا ، ودخلوا ، وتركوا الطبيب كي يشخص الحالة ، وجلسوا واجمين في الصالة . لم يستغرق عمل الطبيب وقتا طويلا ، شخط فيهم : ” إنقلوه المستشفى فورا ” . ودس في جيب سترته الرمادي الخمسين جنيها الحمراء ذات المئذنة .

ردت أم البنات الباب خلفه ، وانخرطت في البكاء حتى أن منديل” الأويه ” الذي كانت تعصب به رأسها انفك ،وانزلق على كتفها، فهمس بقطر في أذنها وهو يواسيها : ” فوقي لنفسك شوية ياام البنات . هنروح نجيب تاكسي !”

جاء التاكسي أسرع مما تصورت ، وكانت قد ارتدت فستان الخروج الغامق المنسدل حتى أمشاط قدميها ، فهبطت معهم السلم ، والرجل في غيبوبة لا يحس ولا يدري بأي شيء .

أدخلوه الاستقبال في المستشفى الأميري التي تضع في واجهتها صورة ” الريس ” رافعا يده محييا جمهور المرضى في مجيئهم ، وعودتهم ، وفي القسم طلبوا تذكرة دخول ، وحقن للجلطة ، انشقت الأرض وابتلعت خالد ، الذي جاء بكل ماطلبه الأطباء ، والإداريون ، والممرضات ، لكن عم أحمد النشار كان في نقطة اللاوعي ، وفي حالة حرجة للغاية . جلست الزوجة ، وحولها الرجال الثلاثة ، وأيديهم تحت خدودهم ، لكن بقطر هز الجميع من سباته : ” وحدوا الله ياجماعة .. عم أحمد ربنا هيشفيه ، وهيرجع بيته.. ” .

الدكتور عبد المحسن توفيق تولى الحالة “316 ” في غرفة الإنعاش ، وهو طبيب شاب بشوش الوجه ، طمئن الزوجة على عم أحمد ، ودوّن معلومات عنه ، وطلب منها أن توقع تعهدا بأن المستشفى غير مسئولة عن وفاة المريض في حالة ما إذا أجريت له جراحة ، فأمسكت القلم بيد مرتعشة ووقعت ” درية قزمل ” . مدت الورقة للطبيب الذي طمأنها أنها مجرد إجراءات . رجعت البنات ، وعلمن بما جرى لأبيهن ، فهرولن إلى المستشفى مذعورات ، وتقدمتهن نوال ، فهي ثانية طب ، وتعرف في هذه الأمور ، وتبعتها ابتسام طالبة التجارة ، ثم ثريا التي دخلت بالكاد معهد الخدمة سنتين لأن مجموعها الضعيف لم يسمح لها سوى بهذا . وأمام الحجرة المغلقة رفض الدكتور عبد المحسن دخول أحد منهن ، أخبرته نوال أنها زميلته ، وأمها عندما رأتها عادت مرة أخرى للبكاء ، وخرج صوتها مخنوقا : ” شفت يادكتورة ” . لكن الدكتور عبد المحسن صمم على رأيه ، وقال أن المريض بحاجة إلى الراحة التامة .

هبط الليل ، وسكن الهواء خارج الحجرة ، ولم يسمح بوجود مرافق ، فأمضت الأم وبناتها ليلة قاسية في المنزل بلا حس أو خبر ، أما عم أحمد فكان يقاوم ، والطبيب يعاود فحص حالته كل خمس دقائق ، ومراقبة مؤشر ضربات القلب . بعد منتصف الليل احتلت الابتسامة وجهه فقد تجاوز دائرة الخطر ، وهنا طلب فنجان قهوة مضبوط ، وجلس في الحجرة المجاورة التي يحتلها مكتب رخيص من الصاج بمفرش باهت له رائحة الفورمالين ، وفتح كتاب قصص ” تشيخوف “على صفحة مطوية بعناية .
أقنعت نوال أمها أن عليها واجب أن تتابع حالة أبيها ، ولتذهب البنتان إلى الجامعة ،أصرت الأم على مصاحبتها ، وفي الطرقة الطويلة المؤدية إلى غرفة الانعاش ، وجدت الباب موصدا ، ولافتة معلقة فوقه ، عليها عبارة كتبت بخط كنبش الدجاج ” ممنوع الدخول قطعيا ” .. قالت لأمها : ” أستني هنا ” ودقت بأصابعها الباب ، أطل وجه ممرضة : ” قولي للدكتور توفيق فيه زميلة لك عايزاك ” . غابت الممرضة لحظات ، وسمحت للفتاة أن تدخل وحدها . مرت بامتداد الردهة ، لمحته يقرأ والنظارة الطبية مغبشة العدسات .

دخلت بهدوء ” صباح الخير يادكتور توفيق؟
ـ إنت ؟
ـ نعم ، فيه ما نع ؟
ـ أبدا ، لكنك قلت زميلة ؟
ـ نعم ، مش هابقى طبيبة زيك بعد كام سنة ؟
ـ إقعدي .. كل طلبة الطب ما حدش يجاريهم في الكلام ، خصوصا البنات .
ـ والحالة ؟
ـ فكريني ، أنا ما بطلتش شغل طول الليل .
ـ الحالة 316.
ـ آه ، الحمد لله ، اجتاز مرحلة الخطر ، إنت بقى بنت عم أحمد النشار .
ـ بالضبط ، نوال . نوال أحمد النشار .
ضحك من قلبه ، وأشار لها : واقفة ليه ، اتفضلي اقعدي .
لمحت للمرة الثانية غبش النظارة ، فاستسمحته: ممكن بعد إذنك النضارة ؟
ـ أيوه ، لكن ليه ؟
ـ هتشوف .
أخرجت منديلها السماوي المطرز بحرف صغير في الطرف يحمل اسمها بحرف ” الكابتل ” الانجليزي ، ومسحت الغبار ، فشكرها .امتدت يدها فسحبت الكتاب ، وقرأت اسم ” تشيخوف” ، سألته : تقرا له دايما ؟
ـ نعم ، هو كاتبي المفضل . هل قريت له شيئا آنسة ….آسف نسيت الاسم !
ـ نوال ..
ـ نعم .. نوال أحمد النشار . ثانية طب .
ـ طبعا كل أعماله عندي . مكتبتي صغيرة لكن معقولة ، ممكن تعرفك الحياة عن طريق تشيخوف بالذات .
ـ غريبة ، أول مرة حد يشاركني الاهتمام ده .أوعي كمان تكوني بتحبي عصافير الكناريا ؟
ـ والله باحبها . الزرقا في أصفر بالذات .
ـ أياك تكوني بتحبي زهر القرنفل؟
ـ طيب أيه رأيك هو و الياسمين أرق زهور العالم .
ـ يبقى اتفقنا .

ضحكا سويا ،وأحست أن قلبها يدق بعنف ، لمحته يأخذ منديلها الصغير فيضعه في جيب معطفه الأبيض ، فاتسعت ابتسامتها. سبقها إلى غرفة الانعاش ، كانت الأسّرة متجاورة ، وبين كل مريض وأخر ستارة من المشمع الكحلي الغامق ، رأت الأبر مغروسة في العروق ، والمحاليل معلقة في الحوامل المعدنية ،والخراطيم البلاستيك مدلاة من أعلى ، أما الممرضات فيرحن ويجئن ، ويخبرن الطبيب بتطورات كل حالة .

كان أبوها مستغرقا في النوم ، فانحنت وقبلت جبينه ، ثم أمسكت يده ، ورفعتها لمستوى شفتيها ،وقبلتها أيضا في امتنان عميق .كانت يده تحمل لون “الجملاكة” البني المحمر ، برائحتها النفاذة ، فهو يعمل استرجي من ثلاثين عاما ، في محل منزو بحارة “الشيخة قبيلة “، ربت على كتفها يستعجلها : ” يالله بينا يانوال . الحمد لله ، حالته اتحسنت جدا ” .

شعرت أنه ينطق اسمها بألفة ، وبلا تكلف ، ودت أن تخبره أنها استراحت له ، وأنه طبيب ماهر ، فقد أنقذ حياة أبيها ، تذكرت أمها : ” والدتي بره يادكتور . ممكن تدخل تتطمن عليه ؟ ”
اتسعت ابتسامته : ” الأصول لأ . ممنوع ، لكن علشان أنت بتحبي “تشيخوف ” ، هاسمح لها طبعا ” .
في طريق العودة ، سألتها أمها : ” ليه تأخرت يانوال . قلقت عليك يابنتي ” . ردت وقلبها يتأرجح : ” كنا بندرس الحالة ياأمي ا”.

مر أسبوع ، وتماثل عم أحمد النشار للشفاء ، ولم تنقطع زيارات بقطر ،وسعود البنا ، وخالد قشطة ، وكل أبناء الحي ، وانتقل المريض إلى حجرة في جناح بعيد عن غرفة الإنعاش بعد أن زال الخطر ، وكان الأب قد أصبح قادرا على تمييز من يزوره ، والنطق بسلام بسيط ، ورفع اليد لرد التحية ، وتحت رأسه وضعت نوال المصحف ، وكانت كلما زارته هي أو ابتسام أو ثريا قرأن له بعض السور القصيرة . في الطرقات الواسعة ، والممرات الضيقة ، والحديقة الخلفية للمستشفي ظلت هناك رائحة الفورمالين القوي ، وفي مرة لمحت باقة زهور القرنفل في كوب ماء موضوع على المنضدة العارية الفقيرة . سألت أمها : ” مين جاب الورد الجميل ده ياأمي؟” ؟

هزت رأسها بحيرة: ” والله ما انا عارفة يابنتي .. يمكن الحكومة.. ماهي فيها الخير برضه ؟”
كانت الأم ماكرة ، لكنها أيقنت من أين أتي الورد ، وعليها أن تذهب إلى حجرته لتشكره ، وتتأكد من موعد الخروج الذي تعرف أنه اليوم . صحيح أنها فرحة لأن أبيها سيخرج ، لكنها تود لو بقت مع هذا الشاب اللطيف الذي تقاسمه اهتماماته. دقت الباب المغلق ، فاهتزت اللافتة ، لم تسأل هذه المرة ، اندفعت إلى المكتب حيث جلسته المفضلة ، لم تجده ، سألت الممرضة : ” الدكتور عبد المحسن فين ؟”

بدون اهتمام صدمتها بعبارة جارحة شعرت أنها ستذبحها حالا كنصل سكين مسنون : ” الدكتور خد إجازة أسبوع بدأت من امبارح يا أستاذة ” . قالتها في تشف ظاهر وأكيد .

امتقع وجهها ، وأوشكت على البكاء ، وسألت نفسها : ” لماذا إذن أرسل زهور القرنفل ؟ ” واندفعت إلى حجرة الأب ، وهي تلملم جروحها ، نظر إليها وهو يغالب ضعفه : ” مالك يا نوال .. وشك مخطوف ليه ؟” . تأملت الباقة طويلا : ” أصل كنت افتكرت الدنيا صفت لي ؟ “انزعجت الأم : ” حصل حاجة يابنتي في الكلية ؟ ” انخرطت البنت في البكاء دون أن تدري ، ولم ترد .

جاء بقطر ، ومعه تصريح الخروج ، فلملمت الأم الملاءات ، والفوط ، وملابس زوجها ، وساعدتها البنتان ، أما نوال فقد شردت طويلا، وفيما هم يستعدون للخروج ، سألتها الأم بعفوية ودونما قصد : ” ناخد الورد معانا البيت ولا نسيبه ؟” .

ردت نوال بصوت منكسر : ” لا يا أمي .. مالوش لازمة .. وبعدين ده أكيد زمانه دبل ” .
في طريقهم للخروج ، وبينما هم في منتصف الممر الطويل الأخرس الغارق في صمته ، وجدته أمامها ، وفي لمح البصر شعر بأصابعها الرقيقة تمسح دموع لاتكاد تـُــرى .

بهدوء سألته وبنبرة احتجاج عاصف : ” أيه يادكتور ..مش حضرتك خدت أسبوع أجازة ؟”
استوعب رنة الاحتجاج في صوتها : ” أيوه، أصل أنا تعبت جدا وخدت دور برد ، لكن والله خرجت مخصوص علشان اتطمن على الحالة ” .

مسحت كلماته حزنها ، سلم على عم احمد النشار ، وهز يده بقوة ، فشكره الرجل على سهره معه ، وصمم على أن يوصلهم جميعا إلي بوابة الخروج ، وفيما هم يشقون طريقهم ، لمست يده يدها صدفة ، ولم تدر إلا وهي تتركها له ليحتويها بشيء من العرفان ، أما الأم التي لمحت المنظربطرف عينها فقد فهمت كل شيء ، ونطقت دون أ ن تدري : ” ربنا يخليك يابني ، ويجبر بخاطرك ” .

قبل أن يرد الدعوة تذكرت نوال شيئا ، تلفتت حولها والفرح يغمرها : ” أستني ياأمي ، الظاهر أننا نسينا الورد .. حرام نسيبه يدبل “.. ثم انطلقت كالسهم نحو الحجرة في آخر الردهة لتحضره !!

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى