إبداعاتتراجم

“ورق الحائط الأصفر” .. الجزء الثاني

ورق الحائط الأصفر، هي قصة الكاتبة الأمريكية “شارلوت بيركنز جيلمان”، والتي ولدت عام ١٨٦٠ و رحلت عن عالمنا عام ١٩٣٥، عرفت بكتاباتها  في مجال الأدب النسوي من قصص وأشعار جعلتها لأجل قضايا المرأة في تلك الفترة.

كتبت “شارلوت” هذه  القصة وهي تمر باضطرابات عقلية إثر ما بعد الولادة postpartum psychosis، والأن ننتقل إلى الجزء الثاني من القصة من ترجمة “خالد العجماوي” …

(4)

أطل القمر وسط عتمة الليل نورا يشق  أركان الدكنة، وهو يزحف نحو شباكي في هدوء حذر. كان “جون” على الفراش يغط في نوم عميق، وذلك الشيء على الحائط يتحرك كأنه يريد الانعتاق! نهضت من فراشي؛ ورحت أتحسس الحائط علني أتلمس ذلك الشيء..

– ماذا هنالك حبيبتي؟

استيقظ “جون” أخيرا!

وجدتها فرصتي كي أبوح بما أرى.

– “جون”.. صدقني. أنا لست على ما يرام. أخرجني من هنا.

– لماذا يا عزيزتي؟ لم يتبق على إيجار القصر إلا ثلاثة أسابيع. منزلنا ليس جاهزا بعد.

أخذني بين ذراعيه..

– أنت في أمان هنا يا حبيبتي. كما أنك تتحسنين.  وجهك يزداد نضارة، كما أن شهيتك أفضل.

– تتحسن شهيتي في وجودك “جون”. ولكني لا أكاد أذوق طعاما في غيابك.

– دعك من هذا واخلدي للنوم، ولنتكلم في الصباح.

– ألن تتركني في الصباح؟

– كيف لا؟ لدي عمل يجب أن أقوم به.

وجدت في عينيه حدة وصرامة. فلم أتفوه بكلمة.

– حبيبتي، لا تسمحي لخيالاتك أن تقودك إلى أوهام. لاشيء سيء هنا. ثقي بي كطبيب واعرفي أنك بخير.

قالها وعاد إلى النوم. وجدتني وحيدة مجددا.  نظرت إلى الحائط وأنا أسأل: هل تتحرك النقوش الأمامية والخلفية مجتمعين أم أنهما أحيانا ما ينفصلان؟

في الصباح تتغير النقوش. تبدو كمتمرد يعلن العصيان على كل قانون ومنطق. عصية على الفهم والإدراك، حتى كأنها تصفعك على وجهك. تصرعك فتسقطك. كأنها كابوس!

تختلف هذه النقوش في الليل، فمع ضوء القمر أو الشفق، أو ربما ضوء شمعة ما، فإنها تبدو كأنها قضبان، ووراءها ظل امرأة تريد أن تفلت. لم أكن متأكدة من تلك الظلال قبلا مع ضوء القمر الخافت. ولكني الآن أقسم أنها امرأة. تبدو في النهار مستكينة وهادئة، ولكني أراها تنشط كثيرا في الليل وأنا مستلقية أراقبها في صمت.

صرت أستلقي فترات طويلة. يقول “جون إن ذلك أفضل كثيرا لي.

في الحقيقة أصبحت أخاف “جون” كثيرا. صار غريب الأطوار. حتى أخته “جيني” صارت تنظر  نظرات عجيبة نحوي. ألهذا علاقة بالحائط ربما؟ لاحظت أنه صار يختلق الأعذار كي يدخل إلى الغرفة. بل وشاهدته في مرات كثيرة ينظر إلى الحائط في تمعن. حتى “جيني” لمحتها مرة تتحسس الحائط بيديها. انتفضت مذعورة حين وجدتني خلفها أسألها في هدوء، وغضبت بشدة كسارق ينفض عن نفسه تهمة. قالت إنها وجدت أنها لاحظت أن  الورق يصبغ ملابسي أنا و”جون”. وأنها تحذرنا من أن نقترب منه كثيرا.

لم أصدقها. أعرف أنها تريد أن تكشف سر ذلك الحائط الأصفر، ولكني لن أسمح لها. أنا فقط من ستكشف ذلك السر.

صارت الحياة ممتعة وأنا أرقب الحائط!

صار لدي هدف ما، أن أرقب وأشاهد وأستكشف. تحسنتُ جديا.  زادت شهيتي.  كما أصبحت أكثر هدوءً ووداعة.

فرح “جون” كثيرا وهو يراني أفضل.  ابتسم لي وقال إنني  صرت مشرقة رغم ذلك الورق. المسكين لم يكن يعلم أنه الورق نفسه هو سر سعادتي الآن. لم أعد أريد أن يأخذني بعيدا. كلا. أريد البقاء لأكتشف السر. لا يزال ثمة أسبوع قبل أن نغادر.

(5)

تحسنتُ كثيرا. صرت أنام جل النهار، وأقوم الليل ساهرة أتابع هذا الأصفر العجيب. لم يعد يداعب عيني وحدها، بل صار يداعب أنفي كذلك. صرت أشم له رائحة! شممتها منذ أول يوم لي في هذه الغرفة، ولكنها لم تكن سيئة وقد كانت تصاحبها الشمس التي تدلف من الشباك وبعض النسمات الخفيفة. بيد أنه وقد ساد الضباب وهطل المطر فإن الرائحة أصبحت قاتمة.  بل وصارت كأنها تزحف في أركان القصر كله. شممتها في غرفة الطعام، كما شممتها في غرفة المعيشة. وجدتها تختبئ في البهو الخارجي، كما رأيتها تنتظرني على الدرج. صرت أشعر بها تتخلل في جدائل شعري!

أحاول أن أفهمها.  لم تكن تزعجني في البداية.  كانت تبدو لطيفة وهادئة. ولكن ومع تحول المناخ الكئيب هذا،  صارت الرائحة شنيعة. أحسها توقظني في الليل وهي تحوم حولي.

حتى لقد فكرت يوما أن أحرق القصر كله كي أتخلص منها.

كان ذلك قبل أن أعتدها.

ثمة خط يتعرج على الحائط. أراه يختبئ خلف كل قطعة أثاث. من تراه رسم له طريقه؟ أراه يدور حول هذه الغرفة، ويدور معه دماغي دورانا.

اكتشفت شيئا في الأخير؛ إن النقش الأمامي على الحائط يتحرك بالفعل، وإن تلك المرأة على الحائط هي من تهزه بعنف. أحيانا ما أرى داخل الحائط نساء عدة، وأحيانا أخرى أرى مجرد امرأة واحدة. أجدها تزحف على الجدار في سرعة تهز ذلك النقش كوتر مشدود. تبدو مستكينة حين يقع عليها شعاع من الضوء، بيد أنها تنشط في الظلام، فتمسك بالخيوط كأنها القضبان، تهزها هزا وهي تحاول خلعها كي تخرج، فتقفز منه كي تعبر إلى داخل الغرفة. يبدو إنه لم تنجح محاولات أي من النسوة داخل الجدار من قبل. أظن أن تلك الرؤوس التي أراها على الحائط إنما هي رؤوس نساء فشلن في محاولة العبور، فنزع الخيط رقابهن،  فتدلت رؤوسهن  بعيون بدت بيضاء خالية من مآقيها.

ولكن مهلا! ثمة امرأة داخل الحائط تنشط بالنهار. لقد رأيتها!

أشاهدها كل يوم من خلال نافذتي. نعم إنها نفس المرأة كل مرة.  أراها تزحف  في ذلك الممر الطويل، وعلى غصون الأشجار . إنها تجول في جميع أركان الحديقة. بيد أنها سرعان ما تختبئ وسط الزروع إذا ما مرت عربة سريعة في الممر الطويل. أنا لا ألومها أبدا. لابد من أن يختبئ المرء حين يزحف! حتى أنا أغلق باب غرفتي جيدا حين أزحف بالنهار. لا أستطيع أن أزحف ليلا بالتأكيد إذ أن ذلك سيثير شكوك “جون” وريبته. كم أود لو يترك لي الغرفة لتكون لي وحدي، فأتمكن من تحرير تلك المرأة داخل الحائط!

لا تعجبني نظرات “جون” إليّ. وجدته يسأل أخته “جيني” أسئلة كثيرة عني. يتظاهر بالحب والاهتمام، بيد أن القلق يأكله. هو يعلم أني لا أنام ليلا، وإن كنت أظل هادئة بلا حراك. أصبحت أرى كما من القلق والارتياب على وجه “جون” و”جيني” يثيران فضولي واهتمامي. لماذا يا ترى كل هذا القلق يا “جون”؟ ..حسنا. لقد مرت ثلاثة شهور داخل الغرفة ولم يتبق إلا يوم واحد كفرصة لدي كي أحرر تلك المرأة الحبيسة من الحائط الأصفر.

(6)

هذا هو يومي الأخير هنا!

تريد “جيني” اللئيمة أن تبيت معي في الغرفة، خاصة وأن “جون” سيغيب طوال اليوم. لكني أخبرتها أني أحب أن أكون وحدي في الليل. كنت أكذب .. أنا لا أكون وحدي حين يهطل الليل أبدا. تكون معي تلك التي تزحف فلا تتركني قط. فور بزوغ القمر ظهرت هي، ظلت تزحف على الحائط وهي تهز الخيط. قمت من فوري وقررت أن أساعدها. صارت تشد الخيط وأنا أسحبه، ثم صارت تسحبه وأنا أشده. ظللنا نسحب ونشد حتى انقضى الليل وقد انتزعنا أمتارا من سجنها ذاك! لم أشعر إلا وقد وجدت شعاع الشمس يخترق الشباك ليدخل غرفتي. فوجدت النقش على الحائط يبتسم لي ساخرا وشامتا. حسنا.. سأنهي المسألة اليوم إذن.

سوف نرحل في الغد. أسمعهم ينقلون أثاثنا ليتركوا القصر كما كان. دخلت “جيني” إلى الغرفة ونظرت إلى الورق الممزق  ذاهلة. أجبتها بأني مزقته كي أخلص الغرفة من روح القتامة الشريرة التي تعتريها. ابتسمت وقالت إنها كانت تود لو أنها من مزقته مكاني كي لا يصيبني إرهاق ما. هيهات! لن يمس هذا الورق شخص سواي!

– تستطيعين الخروج لو أحببت.

– شكرا “جيني”.. في الحقيقة صارت الغرفة فارغة ونظيفة، وأود أن أنام الوقت كله. صراحة لا أرغب أن يوقظني أحد حتى ولو على العشاء.

ذهبت وتركتني. لم يبق في الغرفة إلا أنا،  والسرير المثبت بالمسامير. صار علي أن أبدأ.

أوصدت الباب بإحكام، وقذفت بالمفتاح إلى الممر الخارجي.  لا أريد أن أخرج، ولا أريد أن يدخل علي أحد. ولا حتى “جون”. أريد أن أدهشك بما قمت به!

في يدي حبل متين. حتى إذا ما خرجت تلك المرأة في الظلام هذه الليلة، وحاولت الفرار، أكون قد ربطتها وحبستها عندي. المشكلة الآن أن ثمة أجزاء في هذا الحائط لا أستطيع الوصول إليها. أحتاج إلى الوقوف على شيء ما. حاولت دفع السرير إلى أحد الأركان، لكنه مثبت بإحكام. تعبت حقا.. أكاد أرى النقوش على الحائط تسخر مني. قررت أن أنزع كل الورق الذي أستطيع أن أصل إليه بيدي. أرى الرؤوس بعيونها الجاحظة تنظر إلي وهي تضحك في شماتة. يتملكني غضبٌ عارم. أفكر في القفز من الشباك، غير أن القضبان الحديدية تمنعني. يا إلهي، صرت أكره النظر من هذه النوافذ. أكاد أرى الكثير من النسوة يزحفن خارجا. على الممرات وفوق الأشجار،  في خفة وسرعة. من أي حائط خرجن؟ هل خرجن من هذا الحائط، مثلي؟!

لن يستطيع أحد أن يخرجني من هنا! سأدخل ثانية داخل النقوش عندما يحل الليل.  مرحى! إنه لشيء لطيف أن أخرج من الحائط إلى براح هذه الغرفة، فأجول فيها وأزحف كما يحلو لي. لن أخرج من هنا. لا أحب أن أزحف خارجا حيث يسود اللون الأخضر بديلا عن الأصفر. أريد أن أزحف على أرضية الغرفة هذه، و أن ألامس الحائط بكتفي فلا أفقد طريقي.

ثمة طرق على الباب!

لا تحاول يا “جون” فلن أسمح لك بالدخول!

أسمعه يصرخ ويطلب فأسا. هل تحاول كسر هذا الباب الجميل يا عزيزي؟

– جون.. المفتاح هناك. عند الممرات الأمامية. ربما تراه تحت ورقة شجرة.

سمعت صوته يقول باستجداء:

– افتحي يا حبيبتي. أرجوك !

– لا أستطيع يا عزيزي. المفتاح ليس معي. إنه هناك تحت إحدى الأشجار ربما!

صرت أرددها في ثبات، وخفوت: ” تحت إحدى الأشجار ربما”

اختفى صوته قليلا. مرت دقائق ثم وجدت الباب يفتح، و قد دلف “جون” داخل الغرفة.

وجدته يصرخ:

– ماذا حدث؟ ماذا تفعلين؟

ظللت أزحف هنا وهناك.  نظرت إليه من جانب كتفي.

– خرجت في النهاية. استطعت العبور من داخل الحائط إلى براح الغرفة. مزقت كل الورق الأصفر يا “جون” فلن تستطيع إرجاعي داخله من جديد.

وجدته يسقط وقد فقد وعيه. ماذا دهاك يا “جون” لقد سددت علي الطريق!

عبرت فوقه، وظللت أزحف.

والأن، بعد أن انتهت قصتنا، يمكنك أن تشاركنا برأيك من خلال التعليقات، ما هي أعمال “شارلوت بيركنز جيلمان” المفضلة لديك؟.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى