إبداعات

العرى

قصة_ إيهاب الورداني:
حين طلبت منه أن يقابلها أحس كأنما يد خفية ترفعه إلى أعلى .. أعلى حيث عيناها، فيتمدد ثم يتمطى ثم يتقلب يمنة ويسرة .. يدقق النظر : بنطلونه اللبنى ليس لائقا .. بنظلونه الرمادى الصوف رغم قدمه ، أفضل لهذه المقابلة . مد يده والتقط البنطلون وقربه من أنفه تسللت عبر مسامه رائحة نفاذه ، حملت كوامن الذكريات مع تلك المعطرة من رياح الآتى في مزيج غريب .. فرحا ، كأنما للفرحة أجنحة تذوب بذوبانها .. بصت من بين ثنايا بنطلونه : ياه
ندت عنه تنهدة عميقة كأنما يقول للدنيا .. أخيرا .. بعد العمر الطويل تضحكين لى .
شرع في تهيئة نفسه أمام قطعة الزجاج الصغيرة المتبقية من مرآة والدته .
أول مرة يروق له وجهه . بدت قسماته واضحة تماما : عيناه قريبتا الشبه من عينىّ بقرة جارته ناعسة ..أنفه الكبير المفلطح كأنف ركس الكلب المدلل لصاحب العمارة الوحيدة في الحارة .. انبعاجة شفته العليا قليلا بانت كما لو كانت عتبة دكان السويقة .. بدا كل ما كان يراه بالأمس عيوبا مزايا . (ياله من جميل ) . حتى شاربه الخفيف الرفيع تمنى لو يحلقه .. لكن لا .. فهو يخفف وطأة النظرات فوق انبعاج الشفة ويضيف إلى عمره أعواما أخرى .. ويلهى الناس – أيضا – عن شروده الدائم فيرحمونه من مصمصة الشفاه أو رمى النكات المعجونة باستمرار بكثير من البذاءات.
بانت السماء صافية رائقة كأنما صحت لتوها من حلم عذب لم تزل تمضغه . رأى أول ما رأى أم سنية وقبالتها على العتبة الأخرى خالته شلبية .. زادت ابتسامته توردا . كان قد خطا خطوتين مالبث أن عاد مسرعا ووجهه لم يزل للأرض وبحث عن خرقة قديمة تحت الكنبة فلم يجد . وقع نظره على بنطلونه اللبنى المرمى فوق اللحاف المبقع المنكوش على الكنبة الأخرى .. خطفه بسرعة وجفف قطرات الماء المتناثرة على الحذاء .. وفرد قامته .. وبشئ من القسوة شد ياقة قميصه البنى الغامق .
الآن : تنادى أم سنية على بنتها كيما تشاهد ذلك المنشى المتورد الخدين كفتاة
– عينى عليك باردة .. بوصة لعروسة .
قالت خالته شلبية وحبست ضحكة اجتاحت كيانها الممصوص . لمعت أسنان سنية الصفراء داخل حلقها الواسع ومسحت يدها المبللة على صدرها المتوثب . واستراحت على وسطها وبحركة لا إرادية منها ارتفع حاجبها الأيمن حين قالت :
– صنف الرجال واحد .. مداده بره حدوده.
هو يعلم أنها تشاكسه ويعلم أن أمها تريده .. ولكن القلب وما يريد . قال :
– أولاد الحلال كثيرون
ردت خالته شلبية ولم تزل تدارى ضحكتها :
– يا نحسها من تقع فيك .
طلت سنية من صحن الدار : بل قولى يا بختها
كان قد عبر السويقة وسار في الزقاق الضيق المفضى إلى وسعاية سيدى نصر متجها إلى المحطة.
عربات كثيرة ذوات ألوان مختلفة تغطى وجه السماء حتى النهايات البعيدة ..
صحيح أن اللون الداكن له الغلبة لكن العين يمكنها التمييز بين أكثر من لون . رجال ونساء وجمال وأشجار وزغاريد تنزلق وتتناثر مزقا من الأشكال والتيمات بلا نظام . وهناك عند النهايات البعيدة ترتدى الشمس حلتها الوردية تبارك الموكب المنتظر في سكون تام .
غاصت عيناه في الامتداد الأزرق الذى تحول مع الوقت إلى مساحات خضراء ورياح ملونة تدغدغ وتلسع ، ثم شكلت الرياح المندفعة صورتين غريبتين متداخلتين في جسم واحد : برزت سنية أولا بفمها الواسع ونمش صغير كحبات العدس يفرش الوجه المدور وشعر أكرت مضفور في ضفيرتين تطلان على استحياء من الإيشارب الأحمر ذى الخرزات . من خلف ظهرت ..
– أنا اسمى جلاء
– …………..
قال لها : قلت اسمى عشرات المرات وأعرف اسمك . لم لا تردين ؟
كانت تنظر إليه من طرف عينها كأنما تخشى أن يضبطها
.. قال لها أيضا :
ليس لى دخل في اسمى ، لكن ظلاله تحكم قبضتها على.
أول مرة ابتسمت داهمه إحساس غريب حمل المزيجين معا ( ذلك الصاعد من هوة أعماقه وذلك الهابط القادم من سمائها ) ترى هل تنتظر ؟!
لم يك ثمة شئ يخرجه من عباءة أيامه غير كلمة واحدة ردته إلى نفسه .. كأنها خلاصة السبعة حبوب . كانت الكلمة : المشحمة
الشئ الملفت للنظر : اتساع الشوارع والعمارات ذوات الأدوار المختلفة ومسجد قادوس ذو المئذنتين والنهر .. للحظات خيل إليه أن النهر يختلف من بلد إلى بلد وأن مياهه أيضا تختلف وتتلون حسب طبيعة الناس من حوله ، كان قد وصل المكان .. ودار حوله دورتين : قاعدة من الرخام ذات درجات أربع من الجهة البحرية . فوقها عمود رخامي مربع عليه بعض الأسماء من جوانبه .. أطرافه متآكلة .. بعض الحفر كالتجاعيد تفرش الدرجات . بلع ريقه بصعوبة وعيناه تجوبان المنطقة : عند ناصية الدوران نافورة قديمة على شكل دائرة عليها بعض النقوش الملونة والخطوط العريضة (التي تحمل وجه المدينة ) .. حولها صاحب المطعم المواجه إلى كازينو سحر غير أنها لم تفقد كل رونقها منذ قيامها في العهد البعيد أثناء منح الهبات على الفقراء في آماسي الأضحيات .. قبالتها تماما خلاء ممتد ضربوا حوله سورا من خشب وأسلاك شائكة .. قالوا له مرة منذ زمن : إنها شونة القطن خلفها على البعد تجثم مساكن شركة النصر كأنها شواهد قبور على النهر . كل شئ يزداد ثقلا بالانتظار . خليطا من المزيجين كان .
بعض الحشائش نبتت عنوة بين المربعات الأسمنتية العريضة كأنما تتحدى صنع الإنسان .. والشجرة الوحيدة في الجانب الأيمن خلف البوابة مباشرة تمزق جهمة المكان نوعا ما . كل ذلك تبخر سريعا حين جاءت :
قال : تأخرت
قالت : لم يذهب أبى اليوم للعمل لليوم الثالث على التوالى
قال : انتظرتك كثيرا
قالت : بعد المسيرة أغلقوا أبواب المصنع وطردوا العمال
وقالت : بالأمس طلبنى جارنا من أبى
تشنجت ملامحه وبصوت ضعيف قال : والحل ؟
تطلعت إلى النهر .. حاولت أن تقول شيئا .. وكان صامتا .
كأنما ألجمتهما المفاجأة غطى العرق الوجهين . وبدت هى أكثر ثقة وهدوءا .. تقدم الاثنان نحوه وشدا وثاقه إلى الشجرة بينما الثالث أمسك ذراعيها بعنف وشدهما للخلف .. ضاع صراخها مع ضجيج العربات التي تمرق مسرعة في طريق لا تأؤب منه . إيه يا جلاء .. مابالك ساكتا . تعرى الجسد الملفوف الذى لم يطلع عليه غير أختيها الصغيرتين وأمها .
هاهم تحت بصرك وسمائك وعلى ضفتى نيلك يخمشون وجهك ويعكرون صفحته .
سكون وحركة تميت الروح من الفزع ..
يغمض عينيه ويفتحهما ولا يجرؤ على النظر .. يتأوه .
هو الغبار حين يعفر بياض السماء ..
هو الموت حين يتجسد في فزع يرتديك فلا تفيق ..
هو الصمت والصراخ حين يمتزجان فلا سكون ولا موار ..
عاجله أحدهم بلكمة وقهقهة أعقبتها بصقة ..
طارت سترته البنية الغامقة أولا وحطت على الدرجات الأربع وتلاها بنطلونه الصوف الرمادي .. بينهما الآن وبين الجسد العارى الممدود سنتيمترات .. وعيون هستيرية تغمر المكان . وبعض عيون الفضوليين تطل من السيارات الهاربة .
كان كما ولدته أمه تماما بينهم .. ويداه معقودتان للخلف لا يرى شيئا ولا يحس بشئ. في الصباح : قالت الصحيفة الناطقة بلسان حال المدينة :
أخيرا .. جلاء آخر العتاة المدنسين
وقال أحد المسئولين الكبار :
كانت خطتنا محكمة لذا لم يستطع الجاني – المجنى عليه – الإفلات من قبضتنا .
في المساء : نظر الجنديان اللذان استلما نوبتهما الليلية إلى النجوم المرتعشة في قاع النهر – أثناء تقابلهما عند ظل العمود الرخامي الممتد، كل في اتجاهه – وواصلا السير .. وهناك على بعد خمسين مترا وضعت علامة بارزة كتب عليها : قف للتفتيش.
وفي أول حديث للمحافظ الجديد الذي تولى مهامه فجر اليوم قال:
مهمتنا ليست نبش الماضي .. صحيح أن هناك بعض التجاوزات في بعض المواقع لكنا سنضرب بشدة كل يد خبيثة، وحمقاء.
في الصباح : تقدمت سنية ببلاغ إلى النقطة التابعة لها وقالت:
نعم اعتدى على مرتين ووعدنى بالزواج ..
وبكت ..
ثم أردفت والدموع حبات جمر على خديها : وحش ومفتر ..
قالت أمي لي اليوم : لقد اعتدى عليها أيضا
وفي الصباح : حين رأى الضابط اسم جلاء منقوشا على العمود الرخامي وسط الاسماء المتاكلة أسقط في يده ولم ينبس …
وتحركت عربات كثيرة إلى مجول (مسقط رأس المدعو) حيث تبين أن ثمة شائعات تتردد هناك.
(أقوال أخرى لابد منها)
في القرية : قام بعض الأهالي بصنع ثلاثة صناديق خشبية وضعت على عتبات الجوامع الثلاثة للم النذور مؤكدين أنهم رأوه على حصان أبيض في حلة بيضاء وحددوا آخر الشهر السابع من كل عام موعدا لإقامة “مولد” له.
في المدينة : قال بعض العارفين ببواطن الأمور : من يومها والنهر جف ،وتحول إلى طريق بشارعين بعد ردمه وأطلقوا عليه “شارع الجلاء” ويقال – والله أعلم – أن المحافظ هو الذى أمر ببناء المستشفى العام الجديد بالقرب من الموقع (إياه) بعد وقوع حوادث مشابهة أخرى.
قالت زوجتى .. وكنا في انتظار الأتوبيس (فى المشحمة) متجهين إلى قريتنا – هل تعنى حقا .. أنه .. !!
قلت والصاري الرخامي يخطف بصرى:
ــ اخفضى صوتك .. من يدرينا ..
قالت باستغراب ودهشة حقيقيين:
ــ لم نذهب إذن .. طالما تعني .. ؟
ــ لا أعنى شيئا على الإطلاق.
قالت : ألسنا في آخر الشهر السابع؟
قلت : بلى .

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى