مقالات

المحاكمة

د.أحمد سماحة 
بفضل رواية «المحاكمة» اورثنا «كافكا» كلمتين مفهومتين اصبحتا ضرورتين لفهم العالم الحديث هما «محكمة ومحاكمة» فوفقا لما طرحه «كافكا» وتناوله «كونديرا» لم تعد المحكمة هي المؤسسة القانونية المخصصة لمعاقبة الخارجين عن القانون .. وإنما أصبحت بالمعنى الذي اعطاه لها كافكا هي القوة التي تحاكم. وهي تحاكم لانها قوة وقوتها فحسب هي التي تعطى المحكمة شرعيتها.
أما المحاكمة المقامة من قبل المحكمة فهي «دوما مطلقة وهذا يعني انها لا تتعلق فقط بفعل منعزل وجريمة محددة».
وعندما نطبق هذا المفهوم الذي طرحه كافكا على ما يجري حولنا من أحداث وفي الواقع الثقافي والسياسي العربي وعلى ما جرى من قبل نجد ان كافكا سبق عصره في قراءة الواقع المريع الذي تفتقت عنه بعد ذلك الحياة الحديثة والنهضة الصناعية وعصر العولمة بكل تعقيداته ومتاهاته التي ضاع فيها إنسان العصر. فالقوة التي تحاكم لانها قوة فحسب اصبح لها وجودها المتمثل في القوة العظمى وفي القوى التي تتخذ من العقيدة منطلقا وفق رؤيتها . والقوة التي تحاكم لانها قوة فحسب تتمثل ايضا فيما يحدث في الأرض المحتلة ..
حين تقام محاكمة لأموات فذلك لكي تتمكن المحاكمة من اعدامهم مرة ثانية اما باحراق تاريخهم بعد نبشه أو إزالة أسمائهم من صفحات التاريخ.
والمحاكمة مطلقة في هذا الأمر أيضا فهي لا تبقى في حدود حياة المتهم ولكنها تتعدى إلى جنسيته وعشيرته فالجريمة أو الخطأ الذي يرتكب من شخص عربي يتضمن العرب جميعا في كل زمان والخطأ الذي يرتكبه مثقف يطال المثقفون، فروح المحاكمة لا تفسح مجالا لإمكانية التقادم فالماضي البعيد هو حي كحدث اليوم وحتى عندما تموت فانك لن تفلت منه لقد دفع «ك» كافكا في «المحاكمة» الي المحكمة دون جرم ودون سبب مما دعاه إلى ان يفتش في تاريخه كله ليبحث عن خطأ يبرر العقاب الذي سيناله في المحاكمة. فثمة عقاب يبحث عن خطيئة .. فكل شخص (دولة) يمكن ان يتهم في أية لحظة لذلك يجتر مقدما نقدا ذاتيا ينكر فيه ذاته بل يلغيها تماما. والمحاكمة عند كافكا و(الآن) ليس من اجل تحقيق العدل وانما لافناء المتهم .. وحتى حين تقام محاكمة لأموات فذلك لكي تتمكن المحاكمة من اعدامهم مرة ثانية اما باحراق تاريخهم بعد نبشه أو أزالة أسمائهم من صفحات التاريخ. ان ذاكرة المحاكمة ذاكرة هائلة فهي ذاكرة خاصة جدا بمعنى انها تنسى كل ما ليس جريمة، فثمة اختصار سيرة المتهم إلى سيرة الجريمة وامتثالية العالم للمحاكمة تجعل العقل يدور في دهاليز كثيرة .. متاهة تأخذه إلى التاريخ والجغرافيا والعقيدة وغيرها، وتفقده اليقينات عن الإنسانية. إذا نجحت روح (المحاكمة) برأي كونديرا في الغاء ثقافة هذا القرن فلن يبقى وراءنا الا ذكرى فظائع غناها كورس اطفال، وسنخرج من القرن حمقى كما دخلناه حمقى.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى