مقالات

وحدها الأحزان من تنجب الشعراء

قد تكون صورة مقربة لـ ‏‏شخص واحد‏ و‏حجاب‏‏
بقلم: ميثاق كريم الركابي
العراق/ الناصريه
في اليوم العالمي للشعر استفزتني الكثير من الذكريات البعيدة جدا و التي طالما سعيت لنسيانها حتى أني عملت لها مقبرة ,لكن بهذا اليوم قررت أن أكون مغامرة مثل لصوص المدافن و أنبش ما بتلك القبور وأخرج بعض مومياءات ذكرياتي و أضعها بمتحف سيرتي الأدبية.
لا أتذكر كيف أصبحت أميلُ للكتابة..!!
كل ما أعرفه حين كنتُ بعمرِ الحاديةِ عشر و مثلَ أي طفل يأخذ كتبه تحت إبطيه و يذاكر .
و لأني منذ طفولتي أميل الى العزلة ولا أجيد الجلوس كثيراً مع أخوتي و أخواتي كنت أستمتعُ جداً حينَ أجلس وحدي و لأني ولدت في بيت يشارُ إليهِ بالثراء و لم تكن طفولتي مصابةٌ بطعناتِ الحرمانِ كنتُ طفلةً متوازنةً روحياً وعاطفياً و لا سيما أني الصغرى
و مدللة أبيها و أغلى شيءٍ بدنياه.
أجمع كتبي و دفاتري و قلمي الرصاص و أتخذ زاويةً بعيدةً من سطحِ البيتِ لأجلس مع قططي و دجاجاتِ أمي تحومُ حولي, أنهي دروسي ثم أبدأ بتدوينِ مذكراتي اليوميةِ .. كانت عبارةً عن همومٍ طفوليةٍ مضحكة.
كان كل هدفي في الحياةِ أن أكون رسامةً مشهورةً فمصروفي اليومي كنتُ أدخر بعضه لأشتري المزيد من الألوان و كراسات الرسم.
كان أولُ كتابين أقتنيتهما قصصَ أطفالٍ ولا زلتُ اتذكر عناوينهما: (الفيل في غابة العصافير_وملايين القطط)
القصة الأولى ملخصُها أن فيلاً صغيراً هربَ من والدته وذهب باتجاهِ الغابةِ ليصبحَ عصفوراً يستمتعُ بالطيران..!!
كانت فيها حكمٌ و مواعظٌ تعلمنا كأطفال و تمنحنا القدرةَ على التخييل أبعد .. أما الأخرى فكانت تتحدثُ عن امرأةٍ عجوزٍ تحب القطط و تعطف عليها وكلما وجدت قطة في الشارع آوتها بمنزلها كي تحميها من شرور الناس و الحياة .. كنت أحسدها وأقول في قرارةِ نفسي:(رباااه متى أكون مثل تلك العجوز لتكون عندي ملايين القطط..!!)
في مرحلةِ المراهقةِ كانت لدي موهبةُ حفظِ الأغاني و بعض القصائد وكنت أدون بعض الأشعارِ على كتبي فلا أغير عادتي المتمثلةِ بحشو الكتابِ بعشرات المقاطع من الأشعار .
ذات يوم اختى الوسطى رأت كتبي و وشت بي لأختي الكبرى و عملن لي جلسةَ محاكمة وتهديدٍ ووعيدٍ بان يخبروا كل أفراد العائلة بأني صرتُ أدون الشعر على كتبي و أمرتني بمحو كل ما كتبته و أمرت اختي الوسطى ان تفتش كتبي كل يوم فأن وجدت بها شعراً تكون نهايتي.
من ثقافة بعض العوائل القديمةِ أن البنتَ التي تحفظ و تدون الشعرَ هي عاشقة و العاشقة هي أسوأ سمعة ورتبة تنالها البنت بذاك المجتمع فهي أنها العارُ الذي لا علاج له الا الموت.
هنا بدأت أعي معنى مصادرةِ الحريةِ وقص جناحي ولهذا زادت عزلتي و نفوري من العائلة ما عدا أبي وأمي.
أصبحت أكتب صرخاتي المكتومة و أمزقها و أرميها بعيداً.
في مرحلة الشبابِ طغت حالةُ الكتابة عندي و أصبحت أكتب الرواية ورغم الترهلات الكثيرة بالكتابة لأنني مبتدئة إلا أني وجدت نفسي بها و كأنما شدتني و أنقذتني من قاع وحدتي و غربتي.
في عام 2004 م أرسلتها بطرد بريدي لناقد كبير السن في البصرة وقال لي حرفيا:
( يا ابنتي أتركي الرواية و تفرغي لكتابة الشعر أنت شاعرة بالفطرة)
ضحكت كثيرا قلت له لا أجيد كتابته قال لي هو من يكتبك وأنت لا تعلمين..!
قال جربي و ارسلي لي..و جربت و أرسلت و صفق لي بحرارة وقال استمري و هكذا أصبحت شاعرة دون أن أعلم..!
من القصص التي تجعلني أبتسم رغم كل ألمها الخفي تكمن في أن أمي كانت ترفض الكتابة جملة وتفصيلا..
وتقول لي عاقبتك ستكون سيئةً إن استمريتِ بالكتابة وهذا الطريق الذي تسيرين به سيوصلك للهلاك..!!
كنت بارةً بها إلى أقصى حد لكني لم أنل شرف الطاعة بجزئية الكتابة لأني أعتبرها أمراً شخصيا ولن يغضب الله.
وفي أحد الأيام أمرتني أمي بالسفر مع خالتي لزيارة أحد الأولياء الصالحين الإمام علي بن موسى الرضا وهو من سلالة النبي محمد.
ألحت كثيراً علي بالسفر و طاوعتها و قبيل سفري في تلك الليلة و تحديدا عند آذان المغرب جرتني من يدي إلى باحة الدار وصوت آذان الجوامع يملأ الفضاء خلعت خمار رأسها(شيلتها) وفتحت جيبها حتى ظهر الوشم الذي بين نهديها وكان عبارة عن ثلاثة نقاط خضراء ورفعت رأسها للسماء وصارت تدعو(إلهي هذه ابنتي أحفظها من كل سوء و أرجعها الي سالمة ,ثم راحت تناجي الأمام علي الرضا:
” أبو محمد هذه ابنتي أرسلتها لك ولي طلب منك يا سيدي ان تخرج شيطان الشعر من رأسها و ترجعها الى صوابها وإن حققت المراد سأنحر خروفا قرباناً لله ولك”…!!
عدت من السفر و شهيتي مفتوحة أكثر للكتابة وذاك الشيطان لم يخرج من رأسي..وأمي صارت تخاف علي أكثر من لعنة الكتابة ..!!

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى