إبداعات

قراءة في رواية “سماء قريبة من الأرض” للرّوائية المصرية عبير درويش

انتفاء الأبعاد وتماهي الأضداد

د. فتحي بن معمّر- تونس:

ليس أصعب في تقديري على الكاتب من كتابة الرّاهن سافرا، عاطلا من كلّ تزويق أو تنميق أو كتابته مصفّى من الشّوائب والوسم والوصم. ولذلك نجد بعض الكتّاب يلجؤون إلى حيل سرديّة قد تمكّنهم من كتابة الرّاهن بنكهة الماضي. ذاك الماضي البعيد الذي صار تاريخا يمكن أن نحاكم أهله وندينهم ولكن لا نملك أن نعاقبهم تماما كما يمكنّنا ذلك من محاكمة الرّاهن ونحن نتوارى خلف ستار التّاريخ فلا نؤاخَذ ولا نحاسب وربّما لا نعاقب حتّى وإن تشابهت أحداث الماضي أو تطابقت فذاك من محض الصّدفة أو من باب أنّ التّاريخ قد يعيد نفسه. وذاك ربّما ما فعلته الرّوائية المصريّة عبير درويش في روايتها البديعة “سماء قريبة من الأرض” سواء قصدت ذلك أو لم تقصد. وذاك ما يرشح من النّص سافرا غير مقنّع أحيانا.

العنوان: في الوصل والفصل بين الأرض والمساء

يحيّرنا هذا العنوان، وهذه الجملة الاسمية “سماء قريبة من الأرض” فبأيّ معنى تُراه يكون هذا القرب؟ أهو بمعنى خطّ الالتقاء الأفقي بين السّماء والأرض على مرمى البصر أو ما اُصطلح على تسميته بـ”الأفق”؟ أم هو قرب أخر بمعنى استجابة السّماء لنداء الأرض وصراخ المعذّبين فيه؟ وهو المعنى المركزي والمحوري في الكتاب المقدّس وخاصّة في العهد القديم حيث يصل صراخ المعذّبين إلى الربّ فينجدهم وربّما قد استعارت الكاتبة المعنى منه كما استحضرت دون شكّ استجابة الله لدعوات المسلم. أم هو بمعنى تلك السّماء التي تنطبق على الأرض حين تنثال المصائب والأزمات حتّى لكأنّنا في يوم القيامة وقد أشار أبطال الرّواية إلى ذلك “القيامة قامت” في موضعين مهمّين في بداية الرّواية وفي نهايتها؟ أم هو بمعنى التردّد بين القطبين، السّماء والأرض والضياع بينهما فلا يصل البطل إلى أرض يستوطنها راضيا ولا يطال سماء يرتفع إليها وبها فيكون حاله حال شاهين “وظل شاهين يتخبّط بجناحيه بين صحوه وغفوه، وما بين ارتحال وثبات، يترك الحيّ ويعاود، ويرافق وجوها بيضاء وأخرى سوداء، ظلّ يحلم ويستيقظ ليغفو مرّة أخرى.. حتّى أفاق في يوم على هيامه بابنة حميدة، لا برء منه، وإنّه إن أراد النّجاة .. عليه أن يتخلّى عن نزعة التمرّد تلك وأن يثبت بمخالبه على الأرض، وإلاّ سيظلّ هائما في المنتصف دون اهتداء .. ولن يلمس أرضا ولا سماء”. وعلى هذا الأساس يمكن أن نعتبر أنّ هذا القرب يفهم في سياق انتفاء الأبعاد بين السّماء والأرض والقرب والبعد بينهما يختلف من حالة نفسية إلى أخرى. بل قد يعتريهما ما يعتري كلّ العناصر الأخرى من الاضطراب: “كان كلّ شيء حوله يدور، السّماء والأرض” فكيف ستتدفّق شلالات هذه المعاني الغزيرة في ثنايا الرّواية وأعطافها ومن خلال ما تصمت عنه وإن غمزت بإتقان؟

انتفاء الأبعاد وتماهي الأضداد

البطل الرئيسي في النّص شاهين بن خلف الصعيدي الذي غرق في البحر بينما ماتت والدته بالكوليرا. وقد ربّاه حميدة صديق والده. وبعد وقت حوّله ليعيش مع عويضة النّوبي، العبد الذي تمّ عتقه.

شاهين هذا يعشق سعدة ابنة حميدة ويتزوّجها تُنجب في الطّريق وتموت خلال هروبها مع النّاس أيّام الحرب والاضطرابات. يتخلّى عنها النّاس. وتساعدها “حسنة” وتدفنها ثمّ تأخذ الطّفل لتربيه ويتزوّجها بعد رحلة بحث طويلة عنه وعنها.

إذن شاهين ينجب عوض من سعدة وعوض سينجب لاحقا محمد عويضة على اسم الجدّ الذي رعى شاهين.

فنحن إذن أمام رواية تخترق مساحة زمنية لثلاثة أجيال في تساوق أو تماه مع ثلاث ثورات أو ثلاث محاولات تغيير شهدتها مصر ولسان الحال يردّد “لا يغيّر الله ما بقوم حتّى يغيّروا أنفسهم”. وهذا يضعنا أمام صراع مزدوج يخوضه المصري في تلك الفترة وربّما الآن أيضا كما سيتّضح من الغمز الذكيّ في الرّواية:

  • الأوّل هو صراع الإنسان المصري البسيط أو المهمّش من أجل العيش
  • الثّاني هو صراع الإنسان المصري عموما من أجل الكرامة الإنسانية والحرية ونضاله ضدّ الاستعمار والعمالة والظّلم.

وهذا الصّراع صراع مستمر على محورين:

 الأوّل: يمتدّ من شاهين إلى عوض الذي لقّبه والده بالمصري في خطّ وطني واضح لا يمكن الحياد عنه بإشارة واردة في متن الرّواية “ابن الوز عوام أومّال”

الثّاني: يمتد من عرابي باشا إلى سعد زغلول رغم ما رافق ذلك من انكسارات وانتكاسات وخذلان للمطالب الشّعبية في مراحل معيّنة.

وعلى هذا الأساس فالرّواية تقوم على سرديتيْن: سردية الوطن مصر في سيره الحثيث نحو التحرّر والمواطن المصري بكلّ أطيافه وسعيه للتّحرّر والعيش الكريم. وسردية أبطال الرّواية باعتبارهم نماذج حيّة من هذا المواطن المصري البسيط والمهمّش الذي يناضل من أجل قوت يومه كما يناضل من أجل مستقبل أفضل له ولوطنه الحبيب. ولذلك فإنّ أبطال الرّواية متنوّعين فيهم الرّجل والمرأة والمصري وغير المصري والمسلم والمسيحي والحرّ والعبد الذي اُعتق والرّيفي وابن الحاضرة والفاضل والدنيء والعامل والعاطل والموظّف والمثقّف والجاهل. وكأنّما الكاتبة بمعنى ما تُعلن أنْ تلك هي مصر وذاك هو المصري وأن لا خلاص لهذه البلاد إلاّ بخلاص ذاك الذي يسكنها ويحملها بين جنبيه حبّا به يعيش ولأجله يناضل.

أمّا البطلة الرئيسة إن صحّت التّسمية في الرّواية فهي “حسنة” تلك التي ورد حولها القول “البطّالة ربيبة البيوت البرّانية”. وهي تلك المرأة التي تنقلب من امرأة تتاجر بجسدها وتأكل من ثدييْها إلى امرأة تائبة تقصر حياتها على تربيّة الطّفل الذي أنجبته “سعدة” زوجة شاهين وتوفّيت عند ولادته. ولئن بدا الأمر بسيطا وعاديّا في مسار الأحداث وتطوّرها السّردي لامرأة “بطّالة” تجد نفسها صدفة أمام فرصة سانحة للتّوبة والتفرّغ لتربية طفل لم تُنجبه، فإنّ مسار الأحداث التي تقودها إلى الارتباط ب”شاهين” أحد المهمّشين المنافحين عن الوطن منذ شبابه بصلته بـ”النّديم عبد الله الإدريسي” ذاك “الخطيب المفوّه” بشكل جعله يكون أمام خيارين أحلاهما مرّ إمّا أن يتخلّى عن النّضال أو عن حبّ سعدة لأنّ والدها “حميدة” يريد أن يضمن لها مستقبلا تطرح عديد الأسئلة. وهذه الأسئلة  تزداد حدّة وإلحاحا إذا ما نظرنا إلى ما حاولت الكاتبة إبرازه من تماه بين “عوض” الذي لقّبه والده بـ”المصري” هكذا بألف ولام الاستغراق وبعض الوطنيين من أمثال “حسن بك جمجوم” و”سعد باشا زغلول” و”قاسم بك أمين” ففي حبّ الوطن إذن تنتفي الأبعاد وتتماهى الأضداد وتذوب الفوارق التي تجعل “شاهين” يقبل الزّواج بـ “حسنة” “البطّالة” رغم تحّفظاته عليها بعد أن اكتشف عويضة حقيقتها كما تجعل “عوض” الذي ربّته “حسنة البطّالة” مناضلا وطنيا كالمثقّفين وأبناء الذّوات. فالوطن للجميع واستعادة الكرامة مطلب الجميع. تلك الكرامة التي فقدتها “حسنة” بممارستها لمهنة الدعارة المقنّنة وتلك الكرامة التي يفتقدها “شاهين” وعويضة وغيرهما من أبناء مصر بسبب الحاجة والفقر والظّلم والاستعمار المباشر والوصاية. ولقد أجادت في تقديري الكاتبة نسج العلاقات بين شخصياتها لتبليغ كلّ هذه المعاني انطلاقا من شبكات علاقات مختلفة ومتداخلة في ثلاثة أبعاد على الأقل:

  • شبكات العلاقات الخاصّة بشاهين
  • شبكات العلاقات الخاصّة بحسنة
  • شبكات العلاقات الخاصّة بعوض

وهي شبكات معقّدة تتداخل فيما بينها وتتشابك مع غيرها من مختلف شبكات العلاقات التي للشّخصيات الأخرى سواء كانت رئيسية أو ثانوية في الحضور والفعل السّردي أو في التأثير. وعلى هذا فقد استطاعت الكاتبة أن تجعل الأبعاد تنتفي بين المدينة والرّيف وبين الطّبقات والشّرائح الاجتماعية كما استطاعت توظيف ذلك لتتماهى الأضداد أو ما يبدو لنا منطقيا يقع في دائرة التّضاد لكنّه سرديّا يغدو مبرّرا لإنقاذ الوطن من الفوضى العارمة التي صوّرتها بشكل دقيق من خلال قولها: “الحنق هو السائد، بلا تمييز، بلا هدف، فقط الغضب للغضب، الكلّ متحفّز ضدّ الكلّ، متأهّب للانقضاض، أوروبيون، أهال، أروام، مالطيون، إيطاليون، أنجليز وأصوات خفيّة لا تظهر أصحاب حناجرها”

إحكام البناء وسفور المقصد

يستطيع القارئ بيسر أن يدرك سعي الكاتبة إلى بناء نصّ محكم السّبك، متين البناء، مقصود المفاصل. ولقد تجلّى ذلك الإحكام من خلال القدرة على النّسج بين ذلك الكمّ الهائل من الشّخصيّات والأحداث والتّطوّرات والهواجس والكوابيس التي تعود صاحبها “شاهين” من حين إلى آخر. فقد انطلقت الرّواية من كوابيس يراها “شاهين” حيث يرى نفسه يغرق ويرى طائرا فوق رأسه في إشارة لا شكّ أنّها مقصودة إلى “تأكل من رأسه الطّير” الواردة في صورة يوسف وتنتهي الرّواية بكابوس لكنّه يقرّر فيه شاهين المواجهة ويدعو ابنه عوض إلى ذلك وربّما يدعو من ورائه كلّ الشّعب المصري إلى الانتفاض ونبذ الخوف. ولكي ندرك حجم الإحكام وسفور القصد يمكن أن نورد المشهدين متناظرين في هذا الجدول

كابوس البداية ص 3 – 4 كابوس / حلم النّهاية ص 121-122
مياه عكرة يتخبّط في مداراتها، يحاول التّوازن بكلّ ما أُتي من صلابة، يُجدّف بذراعين تضربان بقوّة في الفراغ، وتتعاركان مع تيّارات دبقة رخوة، تحاولان التشبّث بأية دعامة، فيرتفع الجسد إلاّ قليلا.. رويدا رويدا، يطفو وجهه فوق الماء.. لا يحتمل احتباس الأنفاس، لذا كان جلّ مسعاه أن يكون أنفه هو أعلى نقطة في جسده فهي منجاته من الغرق، لذا لن يدع لها أدنى احتمال بغمر الماء لها، ولا التّسليم لتيّارات الغور المظلم، يجاهد ليحفظ رأسه طافيا.. فإذا به يسمع رفيف اجنحة تقترب، يجد نفسه بين خيارين أصعب، إمّا أن يذوي بجسده كاملا في دوّامة المجهول، أو يثبت فينقره الطّائر المجنّح. يستيقظ شاهين متعرّقا.. بقوّة يهشّ بذراعيه الخواء، وينفض عن جسده ما لم يمسسه من ماء. مذعورا، ينبض قلبه بقوّة الاقتلاع من داخل صدره.. يزفر في تتال وكأنّ صدره يعجز عن استيعاب الهواء! أدرك أنّه هذا الكابوس الذي لم يدعه يهنأ ليلة واحدة منذ وعى، وكلّ ليلة يدعو أن لا تهرب منه أنفاسه، وأن يتمكّن من الصحو قبل أن ينهش رأسه هذا الطائر، الذي يرفّ بجناحيه حوله فلا يدري ايّهما يقاوم الغرق أم المجنّح الذي يحوم حوله.. في تلك اللحظات أفكّر في ولدي الغائب، أفكّر في حالي، وأتعجّب كيف تبدّل بعد كلّ هذا العمر الذي أمضيته مرتعبا من غمر الماء لراسي؟ وكيف قاومت شعوري بانقطاع الأنفاس؟ كيف غصت للعمق وتجوّلت في عمق الأزرق دون مهابة الموت؟ لم يمض وقت طويل على ذلك التّغيير .. بضع سنوات قليلة، كانت كافية بإعادة النّظر لكلّ ما تراكم على نفسي من أغلاط…..

نمت ليلتها وحلمت، لكن داخل حلمي كنت أدرك أنّه الماء، وأنّني أخذت نفسا طويلا ولن يضرّني في شيء أن أستعين برئتي في الغور، وأنّني سأطفو ثانية وألاقي الطائر الذي يحاول نهش رأسي، وقرّرت أن أواجهه، وأزيحه عن طريق صعودي.. أهشّه.. أو حتّى أقاتله، وأطللت برأسي من حلمي خارج الماء فلم أجده.. بل وجدت النّوارس تحوم في السّماء القريبة.. عاليا .. تهلّل لي .. تزعق زعيقا أشبه بالاحتفال، ضحكت من حالي .. قلت لنفسي لربّما كان صديقي الطّائر يحاول إنقاذي .. وعندما قرّرت مواجهته فرّ .. كنت مثل الطائر يا عوض، كلّما واجهتني الحياة فررت، لا تكن مثلي .. واجه وستعرف حينها يا ولدي.

 

بين كابوس البداية وحلم النّهاية بون شاسع، تمثّل في هذا التّضاد الذي لا شكّ أنّ الكاتبة قصدته بين الطّائر الذي يوشك أن ينقر الرأس وبين النوارس التي تشدو وكأنّها تحتفل، وبين الخوف المزدوج من غمر الماء ونقر الطائر والرّغبة في المواجهة وإخراج الرأس لاستنشاق الهواء ورؤية النّوارس تحلّق عاليا في سماء قريبة. تلك هي إذن غاية الرّواية ودرسها الخفي للأفراد وللشّعوب. لا نجاة مع الخوف، ولا خيار إلاّ المواجهة في وصيّة واضحة يوجهها شاهين لعوض في سردية أبطال الرّواية وتوجّهها من ورائهم الذّات السّاردة أو ربّما الكاتبة إلى الشّعب أَنْ واجِهْ وهمَ الطائر الذي يرفرف لينقر رأسك فيستحيل نوارس تغرّد وتشدو بأعذب ألحان الحرّية. وهذا البناء القصدي يتمظهر بأشكال عديدة. فليس من الصّدفة مثلا أن يساهم “شاهين” في بناء سجن وأن يُسجن ابنه لاحقا في مثل هذا السّجن. وغير ذلك من الأحداث والشّخصيّات التي تتماهى أو تختلف. كلّ ذلك من أجل كلمة السّر التي مرّرتها الكاتب بذكاء “واجه وستعرف حينها يا ولدي” خاصّة إذا وضعنا في الاعتبار دوما أنّ شاهين لقّب ابنه “المصري”.

تجلّيات قرب السّماء من الأرض

هذه السّماء القريبة من الأرض يبدو من خلال مسار السّرديتين، سردية الوطن وسردية الأبطال في الرّوية ورغم حجم الانكسارات تبدو السماء تقترب من الأرض لتنقذها كما الطائر المرفرف فوق رأس شاهين وهو يخافه وحين تشّجع رآه نواس تغرّد عاليا في سماء قريبة. ولذلك فقد تعدّدت تجليات اقتراب السماء من الأرض في الرّواية تساوقا ومسايرة لأحداثها وتعرّجاتها وانكساراتها واندحار شخصيّاتها أو انعتاقها ونصرها. ففي بداية الرّواية وبالصفحة 5 يدخل شاهين في دوامة فيرى كلّ شيء يدور حوله بما في ذلك السماء والأرض عندما يجد نفسه بين خيارين أحلاهما مرّ “وأنّه إن أراد النّجاة .. عليه أن يتخلّى عن نزعة التمرّد تلك وأن يثبت بمخالبه على الأرض، وإلاّ سيظلّ في المنتصف دون اهتداء .. ولن يلمس أرضا ولا سماء” والحال أنّ الثّانية قريبة من الأولى كما قرّر العنوان وكما برهنت أحداث الرّواية ومسارها السّردي والدّلالي القصدي وما يرشح من حين إلى آخر من الغمز. ولذلك يتجلّى قرب السماء من الأرض بالصفحة 14 أملا وأفق انتصار سندرك حقيقته في آخر الرّواية “حلّقوا بنظرهم وعقولهم نحو البحر، إلى الوجهة البعيدة، البعيدة تجاه الأساطيل المتأرجحة على الشّاطئ، ربّما نحو الخطّ الفاصل بين الماء والسّماء”. ورغم أنّ السّماء تبدو بعيدة عن الأرض ص31 حينما كانت “حسنة” بمفردها في الخلاء مع الصّبي فإنّ تأكيدها على خلق الله الحي من الميّت دليل أمل وانتصار وقرب السّماء من الأرض “وهي تنظر إلى السّماء ثمّ تعود إلى الأرض، تمسح نظرتها الفضاء حولها .. تتملّكها الرّهبة والرّعب معا .. لكنّها تتمتم بكلماتها المعادة كلّ دقيقة: سبحانك تخلق الحيّ من الميّت والميّت من الحي” وهذا التّسبيح هو الذي سيُؤتي أكله الذي نراه بالصفحة 69 حين يكون “شاهين” سعيدا بزواجه بـ “حسنة” : “نعم كنت أرفّ بجناحي أبحث عن سماء قريبة من الأرض .. أحلّق فيها بجناحي .. أضرب بهما سعادة في الفضاء” حين يسعد شاهين بالعشق ويهنأ بالحب. ثمّ إنّ هذا القرب بين السّماء والأرض قد يكون بمعنى انطباق الأولى على الثانية حين يصوّر لنا الاضطراب وانقلاب القيم كما بالصفحة 83. غير هذا القرب بين السّماء والأرض يتمحّض بوضوح في الصفحة 105 نحو الانتصار بنفس الصّورة التي يراها شاهين في حلمه الأخير من خلال تذكّر عوض له: “بالفعل تذكّرت شاهين. لكن كان بموضع آخر غير اشتياقي له. استحضرت شاهين حين كان يحكي عليهم وهو منهم، عن تلك الطّبقة من البشر الزّاهدة، التي لا تبغي غير زادها من اللّقمة، أخبرني أنّ أولئك هم نوارس الخريف في سماء الاسكندرية .. التي تزهد الأرض، وربّما الأسماك أيضا، وتحلّق في سمائها .. سماء قريبة من الأرض .. سعيا نحو الأفق .. نحو الحرّية، سمعت كلماته الرنّانة بأذني .. وهو يقول: إنّ الفقراء على الأرض مثل الطّير … يغنّي للسّماء لأجل ما تقرب من الأرض” تلك هي إذن السماء القريبة من الأرض، سماء الحرية للفقراء والمهمّشين، سماء الأمنيات والنّصر الذي سيتحقّق في الأخير. وهو نفس المشهد الذي تنغلق به الرّواية بالصّبي بين جدّه شاهين ووالده عوض وهما يأرجحانه حينما يطلب منهما أن يدفعانه عاليا “ضحك عوض وشاهين كثيرا ورفعا الصّغير عن الأرض معا في محاولة للأرجحة، أعقبها الصّغير بصوت بتدفّق مرحا:  فووووق …عاااالي”

على سبيل الخروج

تبدأ الرّواية بمشاهد التردّد والخوف والانفصام المزعج بين السّماء والأرض وتنغلق بالالتحام بينهما في نصر واضح وأمل يمثّله مؤشّران: وجود الصبّي ومرحه رمزا للمستقبل المشرق من ناحية وإصراره على رفعه عاليا عاليا كالنّوارس الحرّة في السّماء التي تبدو قريبة من الأرض بما تبشّر به من طيور تحلّق حرّة ومن صفاء وجمال حيث لا أساطيل مهدّدة ولا سلطة ضاربة ولا اضطرابات كما في أوّل الرّواية من ناحية ثانية. لقد تبيّنا ونحن نعاقر هذه الرّواية حجم التمّاهي في مستويات متعدّدة أوّلها بين التاريخي والآني في إسقاط لا شكّ أنّ الكاتبة قصدته وإن اكتفت بالغمز دون التّصريح وثانيها هذا التّماهي بين الشّخصيات المهمّشة بكل شرائحها مع المناضلين الوطنيين فالكل لأجل الوطن سواء بسواء. لكن الأهم في كلّ هذا هو هذه الخيارات الفنيّة التي اعتمدت عليها صاحبة الرّواية لتنقل هذا الكمّ الهائل من الأحداث والهواجس والمشاعر والآلام والآمال من أجل صياغة ملحمتين متوازيتين: ملحة الوطن مصر وكفاح أبنائه من أجل الاستقلال وملحمة المهمّشين الذين يناضلون من أجل العيش بكرامة ومن أجل تحرير الوطن من الاستعمار والظّلم والاستبداد والفساد.

لقد كانت رواية “سماء قريبة من الأرض” للرّوائية عبير درويش رواية الحاضر بنكهة تاريخية مسرّدة تسريدا خاصّا لاشكّ أنّ الكاتبة أعادت فيه توظيف ما نبشت حوله وبحث من وقائع تاريخية لتقدّم صورة عن الاضطراب الواقع بعد الرّبيع العربي في مصر وفي غيرها من البلدان ولتقدّم صورة لإمكانية النّجاح والخروج من الأزمة نحو الأفضل إذا ما وعت هذه البلدان وهذه الشّعوب أنّ افضل السّبل للنّجاح هي المواجهة وكسب رهان الحريّة والتنمية وتحقيق كرامة الإنسان. غير أنّ هذه المعاني لم تقدّمها الكاتبة سافرة عارية جافة بل صاغتها في قالب سرديّ حكائي تخييلي بديع يزاوج بين التّاريخ كوقائع وبين مسار حياة شاهين كسيرة روائية تتشابك فيها العلاقات وتنثال فيها المشاهد والصّور والأحداث فتشدّ القارئ إلى عالم بديع ساحر حسن السّبك، جميل النّسج، كثير الغمز، عميق الدّلالة والقصد.

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى