إبداعات

ثلاث فرد شبشب وقدم حافية

قصة قصيرة بقلم – أيمن حسن:

في اللحظة التي هم فيها برفع قدمه للدخول، هبط الأمر عليه كأكياس رمال حطته، تراجع بضع خطوات وقعد جسده المعروق على أقرب كرسي، انتهز صبي المقهى الفرصة ووضع أمامه كوب ماء، مشفوعا بـ “تشرب حاجه ؟ “، كانت آخر شعشعات الخمر الرخيصة تسح منه عرقا ونتانة ومخلوطين بأفكار مشوشة، حاول أن يتذكر آخر مرة نام فيها مع امرأة من على الرصيف أو من السوق، لم يستطع، وفكر في آخر مرة وقف فيها تحت الحنفية، أو ألقى جسده في النيل.

وحين راوغته الذاكرة، اتكأ بكوعه على الترابيزه ووضع خده على قبضة يده، وهو يفكر في اللحظة التي كان يسرقها في أي ركن مظلم، يعرف المرأة من نظرة عينيها، والتي لم يرها، يعرفها من صوتها، يسبقها أو تسبقه، وبعد خمس أو عشر دقائق، يقضي حاجته فيها ويمد يده بحذاء أو شبشب قديم، ويرحل، مرات قليلة كان يستغني عن جنيه، يدخل غرفته تاركا بابها مفتوحا، يزيح تلال الأحذية والشباشب، يفرد الحصير ويرمي عليه المرأة، ثم يبرك عليها حتى ينتهي، يسند ظهره إلى جدار الحجرة الرطب، ويشعل سيجارة، وهو ينظر إلى الأحذية والشباشب وقد تراكمت، تماما كالأسئلة التي بدأت تتوارد على رأسه عن فرد الشباشب الثلاث.

نظر لكوب الشاي الذي هبط الذباب على حوافه، ثم أرسل عينيه إلى أبعد قليلا، كانت الأقدام تخطو، تخلع الأحذية، تتركها أحيانا، وأحيانا أخرى تتأبطها وتمر بها عبر الحاجز الخشبي، تسلمها وتتناول قطع النحاس المرقومة، شعر بقشعريرة خفيفة في بطنه، عاودته الرغبة أن ينهض ويلملم الأحذية، لكن الجسد القاعد، كبل الرغبة، لم تبق من تلك الأيام، إلا غمامة من ذكريات، كان يبدأ يومه قبل الفجر، يفرد ثوب القماش السميك أمام أي حاجز خشبي يختار، ثم يجلس على الرصيف البعيد مراقبا، حتى يكتظ المسجد بالناس والركوع والسجود والدعاء، يسحب ثوب القماش من طرفه، ويلفه بهدوء ويرحل، اليوم راح كل هذا، وعاود الطواف على كل المساجد، لا ينتظر أحذية قديمة ولا حتى جديدة، فقط ينتظر قدم صاحب فرد الشباشب الثلاث، أو القدم الأخرى التي لا ترتدي شيئا.

لا يتذكر اليوم الذي عثر فيه على الفردة الأولى، لكنه وهو يفرش الأحذية على رصيف السوق، لمحها بينهم فردة بلاستيك سوداء يسار، باع كل ما لديه، وفي آخر النهار فكر أن يلقيها في أي مكان، لكن يديه -بحكم العادة -لفتها في ثوب القماش، الذي دار معه دورته المعتادة، عربة الكبدة والمقهى، ثم شباك الخمر على أول الحارة.

قبل الفجر وهو يسحب ثوب القماش وجدها هناك، القاها فوق الأحذية بلا اهتمام وخرج، لكن الفردة الثانية، الصفراء هي ما أعاده للأولى، في الليل وضعهما إلى جوار بعضهما، فأكتشف أنهما نفس المقاس وكلتاهما يسار، وفي تلك الليلة فكر لأول مرة في القدم اليمنى، وأين تذهب فردتها، لم تمض أيام حتى جاءت الفردة الثالثة، الخضراء.

هذه المرة تأكد من الجامع، لكن ما حيره أنها كانت أولى زياراته لرصيفه، في الليل عاود وضع الفرد الثلاث إلى جوار بعضها، أسند ظهره إلى الحائط وهو يتجرع خمره ويسحب الأنفاس من سجائره، خايلته القدم اليمنى، كان مرة يراها ضخمة كقدم الفيل ومرة تنتهي بقدم خشب تدق ساعية إلى صلاة خير من النوم، ومرة تستدق وتتآكل حتى تصبح ماسورة من المعدن، يخلعها صاحبها ويضعها إلى جواره، غم عليه التعب وثقل الخمر، تمدد على الحصير واضعا رأسه على كفيه وعينيه على سقف الحجرة الذي بدأ يتموج خفيفا في البداية، ثم راح يدور بالحجرة كلها، حتى تحولت أكوام الأحذية إلى طوب جدران دائرية ضيقة، يهوي فيها كبئر ذي جوف بعيد، يحاول التمسك بشئ ينقذه فتهبط عليه الأحذية تضربه، يغور عميقا عميقا، حتى الشباشب الصفراء والخضراء الناتئة في وسط الطوب كانت تتماهى وتتمدد كسائل بلاستيكي ساخن يكويه ويهبط به وعليه يخنق أنفاسه، وهو ممسك برقبته يشخر وينخر، محاولا النجاة، لكن السقوط الأسود يتواصل حتى يجد نفسه في بركة ماء عفن، يجتاح جوفه وأنفه، يمد كفيه محاولا دفع الماء بعيده، يمد يديه يمسك بملابسه، وفجأة يوقظه أذان الفجر، ” لا إله إلا الله .. لا إله إلا الله” يقولها وهو مخنوق الأنفاس يسبح في عرقه، يجلس في فراشه، يشعل سيجارة ثم يخرج.

منذ تلك الليلة لم يحمل ثوب القماش، فقط يجلس في مكانه على أرصفة الجوامع، يرقب الأقدام ويراقبها، بعضها صغير ناعم، منها البيضاء والسمراء والبين بين، فيها ما هو ضخم أبطش، كأنما الأصابع صارت حوافر، بعضها شققه القشف وعلاه الصدأ، يحمل التراب والطين، لكنها جميعا تعرف الطريق، كائنات نفسها وذواتها، راضية مرضية، نظر لأول مرة إلى قدمه، كانت مفرودة على الأرض، كأنها قالب طوب، مده يده فاصطدمت بالطين والتراب والقشف والقذارة، بدأ يقشر قدمه باحثا عن جلده، يتذكر أن لونه كان قمحيا، رفع باطن قدمه فلم يجده، حتى بين اصابعه التي تفرقت تماما، تراكمت على الجلد سنوات من السير والجري حافيا، تذكر مطاردة بعض المصلين له وكيف كاد يسقط في أيديهم بسبب الحذاء، حتى خلعه ودخل في ظلام الشوارع، بعدها لم يضع حذاء في قدمه.

ترك كوب الذباب على الترابيزة وبجواره الحساب، عاد إلى غرفته، فرد ثوب القماش السميك، وبدأ يضع عليه الأحذية، عند كل فجر، يخرج حاملا ثقله على ظهره، يرتاد أرصفة الجوامع، يلقي أمامها ما جمعه على مر السنين، حتى نظف بيته من أخر كومة، وضع فرد الشباشب الثلاث فوق دولاب ملابسه الصغير، دعك جسمه بليفة وصابونه، وأرتدى جلبابه، ومع أذان الفجر خرج باحثا عن قدمه الحافية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى