إبداعات

الأخضر بن يوسف وقصائده

بقلم- الشاعر والنافد والباحث د.علي جعفر العلاق:
هل يمكن لشاعر ما أن يأخذك إليه من أول قصيدة تقرأها له، ثم تزداد إشتباكا معه، مع كل قصيدة جديدة؟ هذا بالضبط ما حدث لي مع سعدي يوسف.
كانت قصيدته (إلى محيسن من هور السفطة) أول قصيدة ربطت بيني وبينه جسور اللقاء الشعري. وظللت مذّاك أتابع ما ينشر، في مجلة الآداب البيروتية خاصة، وما يصادفني من قصائده في مجلات أخرى. ولم يتح لي أن أراه وجهاً لوجه إلا بعد عودته إلى بغداد ومشاركته في مهرجان المربد الشعري الأول في البصرة أوائل السبعينات.
كان صوته يأتينا من الجزائر غائماً وحزيناً على الدوام . صورة بالغة الدفء والجاذبية استطاع أن يجسدها في نفوسنا باستمرار؛ ذلك الوحيد المنتظر المنفي، ذلك الذي يبعثر أيامه في ليالي الغربة بين البحر والحانات الليلية، بين رياح الليل وهي تذكّره بالوطن، والقمر النحيل الذي يذكّره بالمرأة التي يحب: صوت ذو بحه حزينة، وقصائد منقوعة بماء البصرة، وخجل أهلها الموهبين.
2
وجه مكدود ترابي متغضن، يذكّر بوجوه البنائين، وعمال الموانئ، وعينان متعبتان، وشفتان مزمومتان على الدوام. هكذا يبدو لي سعدي يوسف غالباً، غير أن هذه الهيئة الخارجية تشتمل على ثراء داخلي محتدم وعميق. كنت ألحظ الكثير من خفايا سلوكه الشعري والإنساني خلال عملنا معاً في مجلة الأقلام، فهو شخصية تنم رغم هدوئها عن صمت مكتوم وتعارضات جمة. إنه الشاعر والموظف، المنفي والمقيم، القابل والمعترض، الأيدلوجي واللامنتمي، وكأنه يعيش على الحواف الخطرة والرجراجة دائماً.
ممعن في هدوئه ، ومبالغ في خجله مثل طفل، لكنه، مع ذلك طافح حتى أعماق روحه بالمواقف المؤجلة، أو النوايا الشعرية التي لم يحن وقت الإفصاح عنها، أو التي قد تتحول إلى شعر ذات يوم. لم أره، ولو مرة واحدة، يخوض نقاشاً محتدماً، أو يجافي خجله البصري المعتاد، في جدل أو حديث مع أحد. إن أقصى حالات الغضب لا تخرج به عن صوته الخافت، كما أن ضحكته المكتومة الحيية لا تندلع على سجيتها مهما كان الموقف صاخباً أو بهيجاً.
3
عاد إلى بغداد بعد غربة طويلة قضى معظمها في الجزائر. كانت عودته حدثاً شعرياً يضاف إلى أحداث مماثلة، جسدتها عودة الجواهري العظيم، والبياتي بعد ذلك. حين ارتقى المنصة، كانت روحه تتعثر بخيوط غير مرئية من الخجل. بدأ بقراءة قصيدته (عبور الوادي الكبير) أمام شعراء المربد في البصرة، عام 1972،غصّت روحه بالدمع، وتناثرت من صوته آلاف الطيور المنهكة. في تلك اللحظة مددنا فوقه خيمة من هتاف الأيدي وبكاء الحناجر. لم يستطع إكمال قصيدته، فصعد إلى المنصة الشاعر أحمد دحبور، وكان هذا الحدث بداية شهرة دحبور، في العراق تحديداً.
وبعد ذلك أتيحت لي فرصة التعرف عليه عن قرب، فقد عملنا معاً في مجلة الأقلام، وجمعتني به غرفة واحدة: كان عضواً في الهيئة الاستشارية للمجلة، بينما كنت محرراً فيها . كنا نجلس، إلى طاولتين متقابلتين: وكانت غرفتنا في الطابق الرابع، من مبنى وزارة الثقافة والإعلام في ساحة التحرير. وقد شهدت، خلال جلوسنا في ذلك المكتب، ولادة أكثر من قصيدة مهمة لسعدي يوسف، منها، تحديداً (العمل اليوميّ) التي كتبها في عام 1972:
في غرفة بالطابق الرابعِ
في عمارة في ساحة التحرير مكتبانْ
يمتلئان، آلان، بعد الآنِ..
بالغبرة والإعلانْ
ويوقفان الأفق الأوسع والأغصانْ
على حدود الحائط الأبيض حيث إرتمت العينانْ
وحيث أسراب من النوارس الميْتة ملقاةّ
على الشطّانْ.
كانت تلك القصيدة تعتمد على المزج البارع بين زمنين يتحركان على امتداد القصيدة: الماضي والحاضر، ساحة التحرير وأمكنة النفي، الواقع والحلم، الوظيفة والحرية. وقد استطاع الشاعر ببراعته المدهشة أن يرتقي بتفاصيل العمل اليومي ومفرداته: العمارة، المكتب، الكرسي، الدولاب، إلى أفق حلمي شديد التأثير:
في غرفة بالطابق الرابعِ
في عمارة في ساحة التحريرِ،
يغفو
مبحراً
إنسانْ
وبعد فترة قصيرة كتب سعدي يوسف قصيدته الموحية الأخرى (تنويعات استوائية) التي يجسد فيها إحساساً بالندم المرّ على دخوله هذا المعترك الخانق الذي سلبه حرية المنفى، وعذاب الترحال.
كان يبدو في هذه القصيدة رجلاً مصنوعاً من حرير الحنين، والندم المهلك. الحنين إلى تعاساته الليلية المحبّبة، والندم على هفوته الكبرى، أعني عودته إلى بلاده الموغلة في الأمس، وغروب الملذات:
ما الذي قد صنعت بنفسك؟
كانت بلاد الجزائر واسعةً.. مثل أفريقيا
كان في كل مزرعة غابةٌ مثل … أفريقيا
كان في كل مفترق نخلةٌ مثل أفريقيا
ويمزج سعدي في هذه القصيدة، كما يفعل في الكثير من قصائده، بين الأزمنة والأمكنة والوجوه والانفعالات ليصنع، من كل ذلك، عجينة شعرية حارة ميزت قصيدته غالباً. ثمة قسوة على الذات، تقليم لأظافر الأنا، ودعكٌ لجراحها بالملح المشتعل، لقد كانت، قصيدة الندم، والانقلاب على القرار:
وها أنت منهزمٌ:
تدخل المصعد الساعة الثامنةْ
تهبط المصعد الساعة الثانية
أيهذا العدوُّ الذي ظل يطردني، ويطاردني في البلاد البعيدةْ
أيهذا العدوُّ الذي كنت ألمحه في الشجرْ
والذي كنت أقتاته في سطور الجريدةْ
وسقوط الثمر
ثم يندلع ، بعد ذلك، بركان من النداءات:
أيهذا الانين الذي كنت أسميته وطناً
وادّعيت له، واجتزأت حماقاته، واجترأت على ما رأيت إنتساباً لهُ
أيها الوطن الأولُ
إننا نذبلُ
يدرك الشيب أبناءنا..
أيها الوطن المقبلُ..
كان واضحاً، من هذه القصيدة وغيرها، أن سعدي يعيش مرحلة بين منفيين، مرحلة من التفجر غير المرئي، سترافق الشاعر طوال هذه الفترة العراقية.
4
ومع ذلك فإن لسعدي يوسف مواقف تنم عن وفاء جميل لبعض صداقاته، مازلت أتذكر موقفه الجميل من حسب الشيخ جعفر. كان ذلك في صنعاء عام 1989. كنا، حسب وأنا، قادمين من بغداد للمشاركة في ملتقى الشعر العربي الفرنسي، تأثر سعدي يوسف كثيراً حين رأى حسب، وكان في حالة صحية متردية، فكتب رسالة إلى الشاعر حميد سعيد، الذي كان رئيسا لتحرير جريدة الثورة، وطلب إليّ توصيلها بنفسي. كان يرجو فيها من حميد أن يعتني بحسب الشيخ جعفر عناية خاصة. وبعد فترة قليلة أوفِد حسب لثلاثة أشهر يحضر خلالها دورة صحفية في موسكو، هذه المدينة التي أقام فيها حسب طويلاً، وكانت المحرض على الكثير من مباهجه الشعرية والجسدية على حد سواء. كان حسب في أمس الحاجة إلى فترة استرخاء كهذه، وكان لرسالة سعدي يوسف إلى حميد سعيد دور أساسي في جعل هذا الأمر ممكناً.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى