إبداعات

رسالة إلى امرأة عابرة

بقلم- ‏نايف مهدي: 

ترفقي بي إن كنتُ قد ثُرتُ عليك مُغاضبا، ولا تحملي فلتات لساني محمل الفراق والموجدة، ولا تقطعي سبيلي إليك بإكباركِ حماقاتي، فوالله ما نبذتك ولا أخلفت وعدك، ولا نقضت ميثاقًا أقسمت بحياتي عليه بين ذراعيك، ولا أضعت ذرة واحدة من ذرات وجدي إليك، ولا عرض لي عزاءٌ عن صوتك الشادي؛ غير أن الموافقة بين فقر اللقاء، واصطلائي ببوتفة الغيرة التي تصهر أضلعي، وزلزلة الشعور ؛ لهي عبء ينوء بحمله قلبي وتذوب روحي كمدًا وإشفاقًا عندما تحدثني نفسي بالتحرر منه.

وبالرغم مما لا طاقة لي باحتماله فإنه لأدنى للصمود من مجرد فكرة رحيلك عن مخيلتي. فمن لي بمؤنس بعدك ينفض عنّي كثيب اليأس إن توارت بسمتي في أغوار الضياع، ومن لي بمنقذ أيمم وجهي شطره عندما يفهق قلبي بأحد الوجعَيْن: وجع مصافحة العطر حينما يسائلني عبيره عنك، ووجع قهر الرغبة المُلحة في استرواح ذلك العطر.

لا أخفيك أن الجفاء يقتلني قتلة لا أعلم أشنع ولا أشد وطأة منها، ويفت رغبتي في إمرار ناظري على صفحات الورق وانسياب القلم بين أناملي. إني أتضاءل حقًّا في انقطاعك عنّي، بل إني أنقبض في كل ثانية حتى يخيل إليّ أنني أقف وحيدًا وراء حاجز من رماد يحجبني عن جميع مؤتلفاتي الحبيبة، إلى درجة أنني بتُ أُنكرها كما أُنكر العمر كله في غيابك.

أيا سمائي وأرضي ومُنشئة نبضي أتذكرين ذاك الثغر الذي عهدتِهِ طلقًا متبسمًا ها هو اليوم قد نُصِّبت على حماه زبانية اليأس والجمود، واستحال صخرة لا تليّنها حبات القطر ولا تزحزح مُكوثها الريح العاصف.

غائبتي المتصورة في كل طرف أنقله وفي كل جفن أغمضه: ترتلني شفاه الحزن كثيرًا في محاريبك، فما لي لا أبصر في قبلتي الأبدية امتداد ذراعيك إليّ، وما لي لا أسمع على مذبح عرشك غير هزيم الخوف وارتداد نبراتي المستجدية؟!

إنه ليؤسفني حقًّا ويحزّ في نفسي أن أجرؤ على تكدير صفوك بقولي: إنَّ فيالق الشجن لا تزال تُغير على معاقلي وتدك حصوني الكرة تلو الأخرى منذ فتور رسائلك وانقطاع كتبك عنّي حتى فُجعت في موضع مأمني ونُفيت بين أسوار مملكتي، فثويتُ حائرًا لا إلى زفرة أصعدها ولا إلى غصة تُجهز على ترقبي.

إن الفكرَ يا عزيزتي أسيرُ مَن يفكر به والعَبَرة رهنٌ لمن تبكيه، فجودي عليّ إذن برّد فكري إليّ إن شقَّ عليك تكفيف دمعي! والذي ربط قلبينا بوثاق من الوداد المقدس، إن جرحى الأجساد لأقل مضضًا وأهون عذابًا وأخفّ تبريحًا من صريعي الفكر؛ فأنين الجراح دائمًا ما يحض مصابيه على طلب الشِفاء، أما صرخات الفكر فمرثيات طوال تثقل باللوم على العقل ولا تعفيه ولو لمرة واحدة من التذكر.

كثيرًا ما تدفعني اللهفة في أيام الغياب الثقيلة إلى تفتيش رسائلنا فأطويها حال مطالعتها ولا أملك نفسي حينئذ من أن أشيع حفيف الذكرى غير مرة إلى باب الرحيل، وأعود منها بعبرة حرى تغلبني مواراتها، فأرتعد فرقًا محاولًا الفرار من أعين المارة ونظرات حجرتي المحدقة بمنضدة الكتابة ومحبرتي المُهملة، وما أكاد أخلو بنفسي وانزوي بعض الانزواء حتى تبعثني الوحدة إلى مناجاتك مجددًا على تخوم الصحوة والمنام؛ فلا أجد سامعًا ولا مجيبًا لنداءاتي.

أيا غائبتي الحاضرة في خلجات روحي ويا استغاثاتي المضمرة في جوف قلبي: لو لم يكن للصفح باب موارب لما اتصلت حروف العاشقين بدفاتر ودِّهم، ولما افتر ثغر عن بسمة وضاءة عقب شحوبه. فأقيلي عثرتي بصفاء سريرتي، واغفري بطهر قلبك سُوء جريرتي، فلا خير في ساقٍ تذوي على مرآه زهرته الأثيرة، ولا فضل لانهيال الودق فوق جثمان متلهف ظامئ، ولا جدوى من هيام يحول دون مقصده متراس التردد.

فإن عفوتِ اكتفيتُ بعفوك كفارةً لوجعي، وأقمت محفلًا من عبرات مدمعي، وأمرت الطير أن يخفق بجناحيه مغردًا في فضاءاتي المسقوفة بخيالك البهي، وطلبت إلى أپولو أن ينزل عن عرشه نشوانَ جذلًا وأن يوقع بقيثارته نغمه الشجي، فتتمايل طربًا لعزفه أميرات البحار بين يدي نپتون وتلال الموج من خلفه ترمقنا بصفاء وخَدَر، وحولنا تتناهض جبال الأولمپ متلألئة فوق صولجان أشجار الصنوبر.

وإن صدتك كبرياؤك عن سالف أيامنا، ومنعك غرور الجرح الواهم من مكاتبتك إياي؛ فحسبي أن تذكريني كلما حانت من ثغرك الخمري ابتسامته الملائكية المُطمئنة، وكلما أنّت زخات المطر بجوار زجاج نافذتك وارتعشتْ على إثرها جوارحك اشتياقًا إليّ ولم تجديني بجوارك.

ولا تعجبي سيدتي حين يُنقل عني أن سعادتك -مهما طوتك الأيام- تجلو ضيقتي وُتطفئ حُرقتي. وإني لأقسم بكل يمين موبقة، إنّ نفحات فرحك تصلني حيث أقمت في توزيعات تيمة ساحرة تنزلق بين أوتار عازف ماهر، أو في تغريد طائر مُرّحب بمطلع فجرٍ خمري باهر، وفي كل حديث عابر تضم نغمته شعاع حرفك الدافئ.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى