الأخبار الثقافيةمقالات

العدالة في ضمير القاضي

بقلم- دكتور صالح الشحري :

القضاء مقترن دوما بالرضا او بالاعتراض من الناس و هذا حال الدنيا، و كما يقال فان نصوص القانون لا تكفي لتحقيق العدالة وان تحقق العدالة في ضمير القاضي مهم قبل ان تؤخذ نصوص القانون بحرفيتها، و كم رأينا أحكاما قضائية اليوم أكثر ما تكون مجافاة للعدالة رغم انها بررت الحكم بالنصوص، بل و عندما تكون القضايا من المستجدات و خاصة ما يحمل طابعا سياسيا فأنت ترى في الأحكام العجب العجاب.

كان هاشم الرفاعى أحد رجال الملك عبد العزيز المخلصين ، بروي هاشم الرفاعي في ذكرياته حادثتين حصلتا في عهد الملك عبد العزيز وكيف تصرف القاضي فيهما تصرفا ذكيا، يدل على رهافة الإحساس بالعدالة، و الحرص على تحرير المتقاضين من أي ضغوط عليهما أو على أحد منهما تؤدي الي القبول بحكم لا يعده أحدهما أو كلاهما عادلا.

حدث أن عائلة نجدية كانت تعيش في البصرة ثم رأت أن تعود إلى بلدها تاركة أملاكها الكثيرة لفرد منها لإدارتها ، و بمرور الوقت رأي بعض أفراد العائلة أن وكيلهم لا يقضي في أملاكهم و مردودها عليهم بشكل يرضيهم، و لذا فما أن أتي الوكيل لزيارة عائلته في نجد حتى قاموا بشكواه عند حاكم نجد الملك عبدالعزيز آنذاك ، و حيث أن العائلة من العائلات الوجيهة في المجتمع فقد حرص الملك على الإصلاح بينهم بعد سماع دعاوى كل منهم و تراضي الأطراف على أنصبة مقسومة و نسب واضحة.

بعد ان استغرق الأمر عشرين يوما من المداولات والجهد من جانب هاشم الذي وكله الملك بمتابعة القضية، وانتهت المسألة بتراضي الجميع و توقيع الأطراف جميعا على وثيقة الصلح، ولم يبق إلا توثيق القضية عند القاضي الشرعي، الذي عادة ما يحضر المتخاصمون إلى مجلسه حيث تُقرأ عليهم الوثيقة و يُستنطقون بخصوص موافقتهم، وهنا يشهد القاضي بصحة الصلح يقول “هاشم” ذهبنا إلى ابن عتيق قاضي الرياض،الذي استوى في مجلسه بعد أن كان متكئا، ثم أمرنا بالجلوس وتليت عليه ورقة الصلح، بعد انتهائه من سماع نص الوثيقة،و بعد تفكير قصير قال:

يظهر أن الصلح قد حصل بواسطة الامام سلمه الله؟

أجابوا بنعم، رد القاضي:إن صلحا يحصل علي يد من بيده السلطة قد يكون أحد الطرفين به مغبونا و يخشى الاعتراف بغبنه، لهذا فأنا لا أستطيع أن أعرض ذمتي لتحمل مَسئولية الغبن بأحد الخصمين و لو عن طريق الشك.

كان جواب القاضي قطعيا لا يقبل النقاش، واحتدم الملك غيظا حين نُقل إليه الخبر،فأرسل للقاضي رسولا عاد بخفي حنين، أرسل الملك إليه خطابا يقول فيه أن عمل القاضي هذا يعرقل مصالح الناس و استمر رفض القاضي، و قال أنه لن يوقع الا اذا حضر اليه المتخاصمون و تراجعا أمامه ثم يقضي في المسألة وفقا لما تأمر به الشريعة!.

بالطبع هذا يدل على استقلالية القضاء، و لذا رغم أن الملك قد أعلم عن عدم رضاه فلم يأمر الفوضى بشيء ولم يفعل أكثر من إبداء الرأي، و هذه حادثة أخرى تؤكد هذا الإنطباع.

عندما ضم الملك عبد العزيز الأحساء و القطيف أصدر أمرا بوجوب الامتناع عن اعادة التحاكم في القضايا التي سبق الحكم فيها في العهد العثماني، و كان الهدف أن يغلق الباب علي أمر لو سُمح به لخلق مشاكل كبيرة لا تنتهي، وجاء في بيان هذا الأمر أنه إذا كان في أحكام القضاء العثماني أخطاء فنحن منها برآء و الذنب عليهم يعني اداريا قد يكون القرار صحيحا.

رجل أعمي من أهل الأحساء كان ينتفع بقطعة أرض وُقفت عليه من أجداده، فانتزعها منه القاضي و سلمها لأحد أقاربه ، كان ذلك في أخريات أيام الحكم العثماني، ونظرا لمجافاة هذا الحكم للعدالة فإن القضية أصبحت حديث المجالس في الأحساء، وبزوال الحكم التركي عاود الاعمي أمله في العدالة لكن قرار عبد العزيز حال دون إعادة النظر في القضية، ثابر الأعمى على رفع شكواه إلى الأمير والي القاضي دونما فائدة.

ولما فاض الأمر به جاء الي مجلس أمير الأحساء عبد الله بن جلوي فألقى نفسه على الأرض متضرعا أن يسمع الأمير دعواه، فما كان من الأمير الذي ضاق بكثرة توسلاته إلا أن أمر بإرساله إلى القاضي، ظانا كما تبين فيما بعد أن القاضي لن يعيد النظر في القضية بناء على أمر عبد العزيز المشار إليه، أما ما كان من القاضي-و كان يعلم بالقضية- فقد اعتبر أن إرسال الأعمى له من الامير المناط به تنفيذ أمر عبد العزيز هو أمر بالاستثناء، و سارع باستدعاء المتخاصمين ونظر في الأمر بصفة مستعجلة و حكم بالأرض للأعمى و استعاد الوثيقة العثمانية المتضمنة للحكم السابق وأمر بحرقها.أُسقط في يد الأمير واضطرب.

و كان الملك في طريقه الي الأحساء ، فاعترضه المحكوم شاكيا فما كان من عبدالعزيز الا أن أصدر امره للقاضي بالعودة عن حكمه لمخالفته قرار منع اعادة التقاضي للقضايا التي حسمت في العهد العثماني، رفض القاضي معتبرا أن الذي يجب أن يؤاخذ بمخالفة أمر الدولة هو الامير و ليس هو أما هو فقد حكم بمقتضى الشرع الشريف و لذلك لا يمكن التراجع عن الحكم.

تأزمت القضية بين القاضي و الملك..و لما لم تنفع مع القاضي كل وسائل عبد العزيز فإنه إستدعي الاعمي و خيره بين ثلاثة أمور إما أن يعيد الوثيقة العثمانية التي أحرقها القاضي، و إما أن يدفع عشرة الاف روبية و إما أن يقطع رأسه، قام تجار الأحساء علي جناح السرعة بجمع عشرة آلاف روبية سلموها للخزينة باسم الاعمي،و كان سخاؤهم هذا مبنيا على أن غضب الملك سرعان ما يهدأ و يمكن مراجعته.

و الذي كان أن القاضي ابن بشر رفع للملك خطاب استقالته لأن القضاء كما قال في خطاب الاستقالة قد أصبح أُلعوبة، و أنه يبرأ إلى الله من القضاء منذ اللحظة التي تجاوز فيها البعض على الشرع، رد الملك علي القاضي برسالة عنيفة و عين مكانه قاضيا جديدا، و لكن تحقق خلال ثلاثة أيام ما كان يتوقعه تجار الأحساء فقد هدأ الغضب و أعيد القاضي ابن بشر إلى موقعه، وأعيدت العشرة آلاف روبية الى تجار الأحساء و نفذ قرار القاضى!.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى