إبداعاتالأخبار الثقافية

همسةُ فجر

بقلم- نايف المهدي:

ترافقني حين يشحب النهار ويقفل خائرًا بعد أن أمضّه كفاحه الطويل، يطرق برأسه المزروع بالشيب وهو يرتدّ كالحًا وفي خطوط جبينه تنزلق الخيبةُ الثقيلة، وعلى حواف صدغيه تلتمع بلوّرات العرق اللزجة الباردة، أخايله، أتابعه بيأس متقد، أشعر بلهاثه المكدود، أكاد ألمسه وأتوحد به، لكنه يروغ متقلصًا في شريط الأفق حتى يُغيّب أثرَه ستارُ الغسق المكفهر الحزين. رغم كل وجع أثار كوامني وأخرس جوارحي، ما زلتُ أردد ترنيمة اللقاء على شفا الضياع الشاهق، حيث تكبلني شباك الحنين في مصيدة مُحكمة أبدية، فأجدني، وقد أضنتني الحلول واستغلقت عليّ الأبواب، أقف ملوّحًا بذراعين متآكلتين يغمرهما فتات الحناجر، تغطيهما أضغاث الوجوه، وتصبغهما أحلام منتزعة من دفاتر الماضي وحفنة الضحك القديم، غير أنه لا شيء يطرأ سوى زحف الظلام الحثيث بأجنحته الكبيرة المعروقة، قاطعًا عليّ الفجاج والطرق، مستوطنًا رحابة الفضاء.

وحتى حين أقشع الأصوات من أذنيّ، وأطرد اللمسات من يديّ، وحين أكنس الأطياف من ملامحي، يظل همسها الرخيم يملأ الأثير، كأنه أنشودة تنشدها معازفُ المدى، أو كأنه اللهفة في معاصم الصبا.

تسبح النجوم في مدارها السحيق، وتغفو الأقمار وتشرئب من مهدها العتيق، ولا يزال انتظاركِ ينخر في عروق روحي المرتعبة المرهقة دون إمهال أو تريث. تنبثق ذكراكِ من صحارى النسيان الحارقة كلعنة أبدية، تخنقني وتعشو مقلتيّ تحت وابل الرماد، كأنكِ العنصر الخامس في الوجود. يقصمني حُبّكِ، يا سيدتي، بضراوة سيفه أينما وليت وجهي أو حملته بين يدي، يزلزلني، يضرم النار بإصرار في جذوع كياني، ويهب أوراقي مضغة للرياح العابثة، وبمنجله الصقيل الملتهب يشرع في تمزيق غيمات الأماني، مبددًا الخيالات الزائفة نتفًا نتفًا، وذلك بمجرد إفلات خيط الذاكرة للوراء، ليعلن من جديد عن وجوده الأكيد، متخيّرًا المكوث في نخاع العظم، ومسارب الروح والأنفاس.

أي لعنة أحاقت بي وأي داء مُنيت به بعد أن انسلتْ أناملكِ الأسيلة من يدي، ونذرتني للتخبط فوق كثيب الهلاك والجوع! إنّ أشواك الخوف، التي طمرت بساتين أزهاري، لا تزال تخز قلبي بعنف وتسفك دماءه دون هوادة. على زجاج الدموع المكوّمة عجزتُ أن أرفع شفتيّ، أو حتى أن أحظى بدفقة هواء عليلة. آهٍ، لو تعلمين مدى جبن قدميّ وجزعهما من ذرع الطريق دون أن تحفّ بي كلماتك كهالة سماوية، كنفحة الشفاء من زجاجة الدواء.

صدقًا لم يكن الليل موحشًا بهذه الحدة، ولا هاته النجوم القريبة بهذا الفوران واللمعان المقيتين، إذ كان ليلي يولد من أطراف شعرك الفاحم الطويل وعيناك كانتا النجوم الحانية المطرزة في تجويف قباب ذاك الليل المنسدل، فيما ظل فجري الوّضاء يبزغ من حُمرة ثغركِ الثمل، حينذاك كنت أنا الطفل الهانئ الصغير الحالم في دعة وشغف، ولسان حاله يقول تُرى كيف يكون يومه الموالي، وكيف تغرد الحساسين والعنادل حين تلثم ريشها شفاه النسمات الصباحية! حينها يسافر الصغير بمخيلته المتوثبة ممتطيًا خياله الجامح وقد راحت لمسات أمه الدافئة تجوس بأناة وحنين بين تشابك خصلات شعره الغافية، تعبق أنفاس أمه الفوّاحة الشاذية لتهطل برفق على رأسه المرتكن إلى صدرها النابض الحنون، حتى يغيب في المنام، عابرًا على متن زورق الأحلام، بينما تكفلت صغار الحباحب بإنارة مجاهل الدروب له فوق تموّجات النهر الذهبية الرقيقة.

لذا عودي دون إبطاء وانسابي في عروق جفنيّ شيئًا فشيئًا لكي أتمكن من أن أطبقهما بسلام وهدوء، ومن أجل أن نتشارك الأحلام والرؤى على إيقاع نبض قلبينا المتلهفين.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى