إبداعاتالأخبار الثقافية

صواني فضية

بقلم – سمير الفيل:

على عكس ما تصورت مات “نُصحي” ابن تاجر البن ، ووقفت على الرصيف أشاهد الصبيان يحملون صواني فضية فوقها زهور حمراء وبنفسجية وصفراء وقليل من الأغصان المخضرة.

كان يسبقني بسنة واحدة وكنت أقاسمه إفطاره فآخذ منه سندويتش الجبن الرومي ،وأترك له سندويتشات الفول والطعمية فيتركني أفعل ذلك وهو يبتسم : أنت لا تعرف أصول الطعام .

يدس في يدي بيضة ما زالت تحمل سخونة السلق حيث يحلو لي أن أضعها في جيبي ، لأصعد بمفردي فصلي كي استمع للأستاذ بشرى بندلي مدرس الرياضيات ، وهو يشرح للمرة المائة أن علينا أن نركز بسن الفرجار لنصنع دائرة نصف قطرها 2 سم .
كنت أخفي شيئا مهما هو أنني لا أمتلك ثمن الفرجار ولا المنقلة ولا المثلث قائم الزاوية الذي كان يشبه مسدسا بلا طلقات.
مات نصحي المر ، ووقفت على الرصيف أبكي .

خرجت وهيبة بائعة الطعمية تنوح وتشلشل بقطعة قماش سوداء لأن ابنها مات منذ سنوات ، ومع كل جنازة تسبقها ” مزيكة” الملجأ تنكش شعرها، وتروح في نوبة بكاء لا تنتهي إلا بعد أن تواسيها ستوتة بائعة الفاكهة والخرساء التي تجلس أمام مقام الشيخ عبدالرازق.

لم يكن سهلا علي ّ أن أحبس دموعي فقد تذكرت بدوري أبي الذي راح إلى هناك منذ سنوات ، وغيبته حفرة لها غطاء نصف دائري من الرخام . جاءت سلوى وقالت أن أباها استغيبني ، ويريد أن أذهب معها لشراء الخضار.

قلت وأنا أواجهها بقلب حزين : نصحي مات؟
هزت رأسها ببرود غريب: كلنا سنموت.
رددت عليها : لكنه كان صاحبي .
هزت رأسها في غير اقتناع : ولو؟
شدتني من يدي ، وطوحت رأسها فزغردت شموس العالم ، والنمش الفاتح يملأ وجهها : تعال معي .
كان المعلم واقفا أمام المحل. قابلني بصوت خشن : كل جنازة تذهب لمشاهدتها ؟ حانوتي حضرتك؟
قلت على الفور: إنه زميلي .
وانقطمت كلماتي قبل أن أخبره أنني سأعيش أياما صعبة بلا إفطار.
فكرت أن هذه مسألة يمكن تدبيرها لكنني حزين أنه لن يدعني أركب دراجته. فكرت أن أذهب لمحل البن حيث الحائط القديم مرسوم عليه فنجان ضخم تتصاعد القهوة من فوهته. أغافلهم وآخذ لفة . صحيح أنه لن ينظر في ساعته ويشخط في : تأخرت.
جذبتني بعد أن أخرج المعلم النقود ودسها في يدي . سرت كالمنوم معها للسوق. كانت تمسك بيدي وهي كالعصفورة التي تود أن تطير لأعلى مكان . سألتني : هذا الدمع الذي أراه. لماذا؟
كذبت عليها وقلت أن حصوة من بيت العدوي المهدود تسربت لمقلتي .
لكي تجعلني سعيدا ذهبت لدكان المهدي ، واشترت قطعة شيكولاتة ” أيكا ” البنية ذات المكعبات . لم أجد وسيلة كي أخبرها أن قلبي منفطر . فقط حين ابتعدنا عن ورشة أبيها طلبت مني أن أجلس على عتبة عالية ، ففعلت ورفعت طرف فستانها الكلوش الأحمر ، ونفخت في عيني المحمرتين. سهيتها وفتحت عيني فرأيت ساقيها بيضاوين كالشمع ونحيلين جدا فضحكت في سري .
سألتني بعد أن انتهت: هاه. هل صحت عيناك؟
قلت وأنا أتأملها : نعم.
فأخذت يدي ثانية، وسارت بي نحو السوق. استسمحتها أن تتركني أذهب للجبانة لأشاهد دفن نصحي . حذرتني أن هذا يدخل العفاريت إلى حجرتي ليلا فلا أستطيع النوم . أقنعتها أن الأرواح الطيبة لا تفعل هذا أبدا ثم أن أمي قد سدت الشباك الوحيد المطل على المسقط بسلك مربع رفيع جدا كي لا تدخل العرسة ولا يتسلل الناموس ولا يفلت العفاريت الذين يملأون حارتنا .
سألتني وهي تراني أنهنه : تحب من في الدنيا؟
قلبت السؤال في عقلي: البحر؟!
هتفت بغيظ : من الكائنات ؟
ـ السمان!
ـ هذا طائر . أقصد من البشر؟

أحسست بها تترقب طلوع الكلام من شفتي، وكنت أشعر شعورا غامضا أنها طيبة وحنونة وتحبني حبا بريئا بلون الورد ، إذ كلما لامست يدي كفها الصغير أحسست بالرعدة تسري في كياني . قلت حتى لا أفضح نفسي: أمي.
تركت يدي غاضبة ، وجدتني أقتفي أثرها واردد بلهفة : وحياة ربنا .. أنت؟
عادت الشموس لتزغرد وقالت بحماس : بنا نذهب للجبانة.

سرت معها ، وجدت الدفن قد انتهى ، والرجال يقفون صفا لتلقي التعازي، بقيت أشاهد الوجوه الحزينة ، وجدتني أنهنه من جديد.

شدتني سلوى من يدي : هيا بنا للسوق. مررنا بدكان البن . لمحت الدراجة مركونة على جدار المحل. لم تكن بي رغبة لأركبها. كانت تبدو صدئة ، ملموسة ، لا أنس فيها. كان قلبي يبكي رغم أن سلوى مدت منديلها ومسحت الدموع التي طفرت دون إرادة مني !.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى