إبداعاتالأخبار الثقافية

جدلية الواقع والأدب

الجزء الثاني من الدراسة النقدية لديوان "قرايه تانيه للجسد"

بقلم الشاعر و الناقد – عبد الحافظ بخيت متولى:

إن الأدب لا يمكن أن ينفصل عن سياقه المجتمعي، وكل نص أدبي هو تجربة اجتماعية تعبر عن واقع له اشتراطاته التاريخية والاجتماعية، وكل مجتمع يلقي بظلاله على صيرورة العملية الإبداعية، بل ويوجه مساراتها الممكنة في كثير من الأحيان، فلا أدب بدون مجتمع، ولا مجتمع بدون أدب لذلك تجتهد هذه الورقة البحثية لتقديم رؤية منهجية حول طبيعة العلاقة بين الإبداع الأدبي والأنساق الاجتماعية من خلال العلاقة القائمة بين علم النقد الأدبي لإنتاج معرفة علمية بالظاهرة الإبداعية ومدلولاتها النصية الاجتماع والنقد الأدبي، باعتباره علما من العلوم الإنسانية التي اعتمدها.

* قراية تانية للجسد ، ” ديوان عامية “، عبد اللطيف مبارك

ونؤكد مسبقا على أن هذه الدراسة سوف تقف عند حدود بعض الأنساق الاجتماعية السائدة ورصدها من خلال إبداعات هذه النماذج والرؤي الأدبية جولها، والان إلى الجزء الثاني من الدراسة..

علقمها السكات”10″

في حين أن المدينة عند الشاعر عبد اللطيف مبارك تعنى الانسلاخ والعدم وفقدان الأحلام

“ضحكت عليه المدينة

فانسلخ منها

حدد بيوت العدم

والوهم سكانها

رسم اليفط

م فوق جدار الحلم

عناوينها

جنته كانت سجون

ونارها سجانها

هنا تبدو العلاقة بالمدينة علاقة تتسم باللعنة وضياع الأحلام لان المدينة كابوس قاتل حين تخلو من القيم الإنسانية والدفء الإنساني فى مقابل ذات شفافة نبتت فى ريف القيمة والأنساق الاجتماعية القبلية التى تتسم بروح الجماعة ،وترفض الاستعلاء الطبقي، ولذا جاءت البنى الشعرية فى النصوص صارخة بزيف المدينة ،اختارت مفرداتها بعناية للتعبير عن علاقة الذات بالمدينة لتؤكد على العزلة والرهبة من المدينة وخواء إنسان المدينة وزيفه

*حضور المرأة وفك طلاسم الوجود :

من أبرز التيمات التى تحفل بها التجارب الشعرية لهذه النماذج ذلك الحضور الواضح للمرأة، وهذا الحضور لا يعنى تأطير العلاقة بين الرجل والمرأة كنسق اجتماعى حيوى دال على حيوية الحياة فحسب، وإنما يشير إلى توظيف الرمزية للمرأة باعتبارها معادلا لقلق الذات أو ظلالا للبوح الإنسانى تجاه الواقع ،وحضور المرأة يبرز علاقات اجتماعية مركزية تؤكد على روح الانفصال والاتصال فى الواقع الاجتماعى فهى الحبيبة وهى الزوجة وهى البنت وهى الأم وهى مركز الكون الإشعاعي في قياس علاقة الذات بالواقع بين المطلق والمحدود

فالمرأة عند عبد اللطيف مبارك تأتى تارة ضمن طقس وجدانى وأجواء تبرز حالة النفعية والانتهازية فى الواقع كنسق اجتماعى دال ومنتشر

“والبنت شاطرة

الغمز حافظاه بالرموش

صمه المذاكرة

وقت اما تغرق ازاي

تبوش

وتارة تأتى مرتبطة بالمشهد الجمالى للوطن ،مما يدفع الشاعر إلى نحتها نحتا لتشكل معادلا نفسيا لحلم الشاعر بوطن بهذا الجمال

“بتشهد لى ايات صورتك

غنا صوتك

وريحة عطرك الفاقع

ولون فستانك الاحمر

ضفايرك بلسمى خدودك

عيونك ضحكة المرمر

لآلئ سدرك الساطع

بنى فارع

جريد النخل ع الضفة

ع النهر اللي متواعد

انا ليكي

كفارس يحملك طيه

م فوق الريح معديكى”19″

هنا يتمدد الوطن فى صورة المرأة بشكل صوفى كاشفا عن أن الانتماء الحقيقي يصنع المعجزات

وقد احتلت المرأة على امتداد مساحة التجارب الشعرية عند النماذج المقدمة من شعراء البحر الأحمر مساحة تكشف عن ثنائية النأي والوصل وصولا إلى لحظة التوحد والامتزاج بدلالتها الواقعية المطلقة ودلالتها الرمزية المقيدة التى تكشف عن وعى الشعراء وإداركهم للعلاقة بين الذات والوجود بين الحضور والغياب ،وتحولات الهموم الذاتية فى العلاقة مع المرأة إلى هموم فلسفية كبرى تسعى إلى فك طلاسم الوجود والصدمة من تحولات الأنساق الاجتماعية فى البيئة التى يرصده الصوت الشعرى فى هذه النماذج

*الواقع السياسي :

تتفاوت هذه النماذج فى تقديم الواقع السياسي بين العمق الفنى والمباشرة من خلال اللغة المستخدمة فى رصد هذا الواقع المهترئ العفن المليئ بالفساد ،وقتل الروح الإنسانية ، فاللغة التى تعبر عن هذا الواقع عند عبد اللطيف مبارك لغة الباطن الجمالى التى ترصد من خلال تصوير فنى هذا الواقع الساحق

“شبح الطلقة اللى واخدها ف جنبي

من يد الموت

هدت جوايا الصوت

بسكوت

وبيوت

موتت البنت الحلوة

م فوق شريانى

من تاني

هذه لغة الإخفاق والقهر فى مواجهة واقع سياسي قادر على أن يقتل الحرية من خلال شبح الخوف والاستلاب

* البنية الفنية للصور الشعرية وعلاقتها بالواقع :

إن التجارب الشعرية التى قدمتها هذه النماذج تلهث – فى معظمها – خلف انشغالها فى الهم اليومى ،كما يظهر عند عبيد طربوش وسعيد صابر بوضوح يجعل الصورة أقرب إلى المباشرة لأنها تتجه إلى شريحة معينة من الناس البسطاء والمهمشين ، ساعية إلى التماهى معها والكشف عن همومها وهواجسها ،والتعبير عن طموحاتها ورؤاها، أولئك الذين ظهروا فى عمق الصورة مفتقرين إلى الدفء الإنساني، ومنهج الشاعر فى بناء الصورة ليس إلا انعكاسا لتفكيره ولتصوره عن العالم نفسه

لذلك جاءت الصورة فى النموذجين مولعة بالالتقاط الميكروسكوبي للجزيئات الشديدة الدقة ،والبحث عن التفاصيل

لعل الموضوعاتية غالبة على فنية الصورة وعمقها وتلميح اللغة بدلا من تصريحها لانشغال الشاعر بالواقع ووقوعه تحت وطأته

في حين تأتي الصورة عند عبد اللطيف مبارك كونية عميقة تعتمد على التماسك الفنى والعمق لانه ينظر الى العالم من خلال عمق رؤيوى يوازن بين لفن والواقع فيرصد الواقع بمهارة الحس الإنساني ومهارة العمق الصوري

” البحر ضحكة بكركرة أمواج

وأنا اللى واقف ع الشطوط

محتاج

أرجع ضحكتى التايهة

ف قلب البحر

لما إهتاج

هنا تبدو الصورة عميقة رشيقة الرمز لحضور القيمة الغنسانية فى مقابل عالم مترد وواقع منهار يشبه البحر الهائج المدمر لإنسانية الإنسان والذى يسلبه بهجته

ويبدو الواقع فاعلا فى رسم الصورة الشعرية واختيار اللغة عند هذه النماذج التى انشغلت بالواقع والفن وتفاوتت فى عمقها وسطحيتها.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى