مقالات

طـراد الكبيـسي وداعـاً

بقلم الشاعر العراقي الكبير:علي حعفر العلاق
قليلون هم الذين يترك رحيلهم في نفوسنا هذا القدر من الأسى . طراد الكبيسي واحدٌ منهم بالتأكيد . وهو يصلح موضوعاً محزناً للتفريق بين موتٍ وموت. موتٍ يترك نقصاً واضحاً في إحساس كلٍّ منا بالحياة ، وموتٍ لا ينتبه اليه أحد، وربما هتفَ بعض من عَلِق بأرواحهم شيءٌ من كدماته : كم تأخرت يا أيها الموت !
لم يكن وجوده بيننا إلا تبشيراً بالجمال، والخلق السمح، وأفانين التعبير عن الحياة بطرقٍ جديدةٍ في القول و الكتابة. شاءت الصدف أن أعمل معه ، زميلاً وصديقاً وأشاركه جزءاً من متاعب غربته. وقد أتاح لي ذلك أن أكون قريباً من شخصيةٍ ذات طرازٍ خاصٍّ، وفاءٌ للصداقة والزمالة واحتفاءٌ بهما في العمل والكتابة على السواء.
تعرّض كيانه الإنسانيّ الى رجّاتٍ كثيرة، في أبوته الممعنة في حنانها حين فقد ابنه الكبير والوحيد في حادثٍ مؤسف، وفي العمل حين تنكّر له البعض ممن يقلّون عنه شأناً ، أوحين لم يأخذ حقه من تكريمٍ هو أحقُّ به من كثيرين. وفي الغربة التي اضطرته أحياناً الى الكتابة تحت شروطها غير الإنسانية.
كنتُ ممن عايش موت الراحل قبل أن يموت حقاً. كنا نلتقي كثيراً في عمّان حيث أقام فترةً هناك . وفي كلّ مرةٍ ألتقيه، كان يبدو أكثر حزناً وأقل تماسكاً. كان يبتعد عن حيويته المعتادة في الكتابة. خفّ حضوره الأدبيُّ الى حدٍّ كبير .لا نشر، لا ندوات ، لا أخبار أدبية أواجتماعيةٌعنه. كان مثلَ قمرٍ يتآكل تدريجياً، وتفترسه التجاعيد. أكان يحسّ أن الحاجة ما عادت ماسةً الى ضوئه العالي؟ ثم حدث فجأةً غيابٌ مؤلمٌ وطويل. سألتُ الكثير من أصدقائنا المشتركين عنه ، في عمان ، لا أحد يملك معلومةً عنه.
فوجئتُ بعد سنواتٍ ، في أواخرعام 2017 تحديداً، بصورته على الفيس بك. كنت يومها في لندن ، سارعت الى الإتصال به بمزيج من مشاعر الفرح والقلق والمحبة، فوصلني رد من ابنته الفاضلة د. ريا الكبيسي ، التي بذلت جهوداً عظيمةً في العناية به، تعلمني أن والدها يعاني من فقدانٍ حادٍ للذاكرة ، وأنها بادرت الى إنشاء هذه الصفحة علّها تنعش ذاكرته، من خلال تواصل أصدقائه و عودة ذلك الوميض البعيد من تاريخه المشترك معهم .
وداعاً طراد الكبيسي، ها أنت ترحل، عن هذه الغابة الحجريّة ، بعد أن أخذتَ حصتك اللائقة بك من المحبة والتألق ، ومن الخسارات الباهظة أيضاً .

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى