فنون و مسرح

حسن البارودي:الغلابة غلابة.. والأكابر أكابر!

بقلم :خيري حسن.
القاهرة – يناير – 2021
*****
[متعصلجش يا (أبو العلا).. إنطاع يا ابنى.. داحنا غلابة.. وهمه أكابر !!]
( فيلم الزوجة الثانية – 1967)
***
[حي عابدين – 1915]
– جاهز .. يا حسن؟
– جاهز .. يا محمد أفندى.
– ده سعد باشا زغلول بنفسه، هيحضر الحفل، بيض وشنا أدامه، ده زعيم الأمة.. الله يرضى عنك !
– حاضر يا أستاذ!
– كان هذا حوارًا دار بين محمد أفندى، مدرس اللغة العربية بمدرسة «عابدين» الثانوية، وبين الطالب حسن البارودى. عندما كان السلطان حسين كامل بقصر عابدين يملك ولا يحكم. وكان المندوب السامى البريطانى بقصر الدوبارة يحكم ولا يملك. وكانت الحرب العالمية الأولى قد بدأت. فى هذا الزمان بدأ المواطن يعانى من ارتفاع الأسعار – بعد نشوب الحرب – حيث وصل سعر السكر – الثلاثة أرطال منه – ب 6 قروش. وصفيحة الجاز بـ 18 قرش صاغ. وكيلة القمح بـ 14 قرش. وصحيفة “الأهرام” بـ 5 مليمات. والخمسة أرغفة،
عيش بلدى، بقرش صاغ. الأسعار نار.. نار..!! والناس تشكو.. إنها الحرب التى تغير الأحوال ومصائر البلاد والعباد.. فى هذه الظروف تعلن “مدرسة عابدين” إقامة هذه الاحتفالية التى يحضرها زعيم الأمة، سعد باشا زغلول. وتقرر إدارة المدرسة أن يلقى الطالب المفوه، وصاحب الأسلوب المميز فى الإلقاء، «حسن البارودى»، كلمة المدرسة!
•••
[ المدرسة – بعد وصول الزعيم ]
– بدأ الحفل.. صعد الطالب وبدأ كلمته.. الحضور صامتون ينتبهون، وسعد باشا «يهز» رأسه إعجابًا وفرحًا بهذا الفتى، صاحب الصوت المميز القوى.
– تصفيق حاد من الحضور. بعد الكلمة يطلب سعد باشا أن يأتى إليه هذا الطالب:
– أفندم.. اسمى حسن..
– سعد باشا: “اسمك حسن.. وصوتك حسن.. وأنا سعيد برؤيتك اليوم.. دعنى أقول لك إنك لو اشتغلت بالمحاماة، فتأكد أنك ستنجح فى كل مرافعاتك بحجة قولك، وقوة صوتك.. اتفضل يا ابنى.. ربنا يوفقك”!
يعود الطالب الذى حاز على ثقة زعيم الأمة إلى بيته، وهو طائر فوق الأرض من شدة فرحه، وأثناء عودته لمنزله، يحدث نفسه قائلاً: سعد باشا يرانى محامياً.. لكنني أرانى -أو أنا أريد أن أكون- ممثلًا، وفى النهاية الممثل يقول كلمة.. والمحامى يقول كلمة.. والهدف من وراء الكلام هو الوصول إلى كلمة الحق، والعدل، والجمال، فلتكن كلمتى إذن بحثًا عن الحق والعدل على خشبة المسرح وليس فى قاعة المحكمة.. وبالفعل تحقق له ما أراد.
•••
[القاهرة – 2016]
“أبى.. كان رجلاً محباً للحياة، طيب القلب، يعشق التمثيل” – بهذه الكلمات لخص الدكتور أشرف – ابن الراحل حسن البارودي فى حديث لى معه – شخصية ابيه. ثم أضاف:” كان يرى الفن رسالة عظيمة هدفها إسعاد البشر، ومنذ نعومة أظافره، وهو يبحث عن ذاته التى يعرف أنها لن تعيش ولن تدوم إلا على خشبة المسرح. ثقف نفسه، وتعلم، وأتقن اللغتين العربية والإنجليزية، لأنه كان يجهز نفسه لمشوار التمثيل، ولقد نجح فيما سعى إليه. وامتلك حجة القول، والمخزون الثقافى، الذي ساعده فى الوقوف على خشبة المسرح”.
•••
[القاهرة – 1966]
فى نهاية مشوار حياته سُئل فى حديث لمجلة “الكواكب” – عدد أكتوبر، من ذلك العام – لو عادت بك الأيام.. ماذا كنت تحب أن تكون؟ رد: “ممثل مسرحى طبعاً”..! هذا الرد أكد عشقه للمسرح.. وهذا العشق هو الذي جعله يضحى بحبه الأول فى الحياة من أجل عيون المسرح.. عن ذلك يقول للمجلة (العدد نفسه): “لقد أُعجبت بى فتاة وصارحتنى بإعجابها.. ونشأت علاقة حب بيننا دامت سبع سنوات، وكنت أتلقى منها رسالة كل صباح، وأخيراً – ومن شدة حبها لى- عرضت علىّ الزواج، بشرط أن أترك التمثيل! رفضت وتركتها ولم أترك التمثيل!
***
[القاهرة – 2016]
عدت للابن د. أشرف حسن البارودى، وقلت له: إلى هذا الحد كان حبه للمسرح جارفاً؟ قال: كان بالفعل المسرح كل حياته.. وأنا أذكر أنه، حتى فى أيامه الأخيرة، التى وهن فيها بصره، كان يُصر على الوقوف على خشبة المسرح، ويؤدى دوره رغم صعوبة ذلك عليه بسبب ضعف البصر. قلت: هناك رواية تقول إنه عندما ضعف بصره واحتاج أن يسافر إلى الخارج رفضت وزارة الثقافة وقتها بسبب عدم وجود ميزانية.. فقام بالاتصال بسيدة الغناء، أم كلثوم، وطلب منها التدخل لدى الدولة، حتى يتمكن من السفر لإجراء العملية.. ما صحة هذه الرواية؟ قال: “صحيحة 100٪، عندما قرر الأطباء ضرورة السفر، لم توافق “وزارة الثقافة”.. هنا قرر أبى أن يتصل بالسيدة أم كلثوم.. وكان من رواد صالونها الثقافى الذى كانت تقيمه فى بيتها، وكانت تقول:( إنه صاحب صوت يغنى على المسرح ولا يتكلم).. وقتها أجرت اتصالاتها السياسية، وفى أقل من 24 ساعة كان كل شىء معداً ومرتباً لسفره، وبالفعل سافر وأجرى العملية وعاد بعدها إلى الوطن.. وأيام بعد أيام بدأ البصر يعانده.. ووصل عناده إلى أن غاب تماماً فى آخر أيامه”!
يُعد – فيلم الزوجة الثانية – الذي شارك فيه، علامة من علامات السينما المصرية. فى هذا الفيلم قدم حسن البارودى شخصية الشيخ «مبروك».. ذلك المُعمم الذى يُنافق – السلطة – «حضرة العمدة» الذى لعب دوره النجم الراحل صلاح منصور أمام الراحل شكرى سرحان، والنجمة سعاد حسنى، وتبلغ ذرة النفاق فى هذا المشهد:
– يا أبو العلا..
– أيوه
– العمدة عايز يناسبك؟
– يناسبنى أنا.. فى مين؟ فى عائشة بنتى؟
– لا .. فى فاطمة؟!
– فاطمة مرتى.
– طلقها! ..آه.. واتجوز غيرها.. البلد مليانة بنات حلوة!
– اعقل يا أبوالعلا ..
– أعقل؟! هو أنتم خليتم فىّ عقل!
– فى شرع مين؟
– يرد الشيخ مبروك قائلاً: «أطيعوا الله وأطيعوا الرسول.. وأولى الأمر منكم» (ويشير إلى العمدة)! بهذه الكلمات البسيطة أراد حسن البارودى، من خلال “مبروك”، أن يقول لنا: إن آفة مجتمعاتنا هى النفاق. وأراد أن يقول: بيننا من ينافق باسم الدين. ومن ينافق باسم الوطنية. ومن ينافق باسم الإنسانية. ومن ينافق من أجل النفاق فى حد ذاته. أراد أن يقول: إن «النفاق» يُعد ميراثًا نتوارثه، ليخدم أنظمة الحكم، سواء كانت أنظمة الحكم ملكية أو جمهورية، أو وزارية، أو برلمانية، أو دينية!
عدت للابن وقلت: هل كان يشعر فى نهاية الرحلة أنه لم يحظ بحقه من الشهرة والنجاح؟ رد: “بالعكس كان سعيداً بما قدمه، وكان راضياً بما وصل إليه. لم تكن الشهرة تعنيه، ولا جمع المال يشغله.. كان فقط يحرص على فنه وكلمته التى يقولها للناس، ويقدمها للأجيال الجديدة.
•••
[القاهرة – 1965]
فى ذلك العام جاء ساعى البريد إلى منزل الفنان حسن البارودى وطلب تسليم خطاب مسجل بعلم الوصول إليه باسمه..
– من أين يا ابنى هذا الخطاب؟
– من إدارة المسرح القومى يا أستاذ.
تسلم الخطاب.. وودع ساعى البريد.. ووقف يفتحه.. فوجد فيه كلمات قليلة تقول له: “اليوم أصبحت على المعاش”!
أسند ظهره للحائط خلفه.. وتحامل على نفسه.. وعاد إلى صالة منزله.. وجلس وألقى بالخطاب بجواره.. ثم دار فى ذهنه شريط حياته.. كان هذا المشوار هو المسرح.. والإذاعة.. والسينما. اليوم يقولون له: “قف هنا.. لم تعد قادراً على الوقوف على التمثيل خاصة على خشبة المسرح”!
فى هذه اللحظة دخل عليه ابنه أشرف.. فقال له: “يا أشرف.. الفنان عندنا (بقى زي) خيل الحكومة.. تخيل! كان هذا اليوم عصيباً عليه، خاصة وهو ما زال لديه القدرة على العطاء..
لقد مرت سنوات على هذا المشهد.. ليرحل الرجل بعدما قدم حياته من أجل الفن. وقدم الفن من أجل المجتمع. هذا الفن هو الذي جعله يترك الدراسة فى المرحلة الثانوية. وجعله يعمل فى محل طرابيش. وجعله يترك حبيبته.. وجعله يفقد بصره قبل رحيله!
•••
[18 – يناير – 1974]
فى مثل هذا اليوم.. مات الفنان حسن البارودي بعدما ترك لنا كلمات كان قد ألقاها على مسامع (المواطن أبوالعلا) فى فيلم الزوجة الثانية.. قال له فيها – وربما لنا – قال: “متعصلجش يا أبو العلا..انطاع يا ابنى.. والله لما ننده على مدنة ماحد هيسمعنا… الأكابر بس همه اللى بيتسمع كلامهم.. همه اللى يأمروا وإحنا اللى بنسمع وننفذ.. إحنا الغلابة.. وهمه الأكابر”
•••
.. وبعد مرور ما يقرب من (53) سنة على هذا القول.. ما زال صوت الفنان حسن البارودى يذكرنا بأن «الغلابة غلابة».. و«الأكابر.. أكابر»..ليبقى السؤال الدائم بيننا.. أيهما أفضل لنا: أن نستمع لنصائح الشيخ مبروك ونعلم علم القناعة، أننا «غلابة»!! وأن صوتنا لن يسمعه أحد! أم نرفض، ونقاوم، و«نعصلج» مثل أبوالعلا، رغم علمنا أن العمدة (هيتزوج فاطمة..يعني.. هيتزوج فاطمة) سواء رضينا أو لم نرضى..؟!
•••
أنت، أشرف قاسم، احمد فضل شبلول و٢١٠ أشخاص آخرين
١٠٥ تعليقات
٣٢ مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى