مقالات

فوزي كريم..تأملاتٌ في شعريته وذكراه

بقلم الشاعر الدكتور-علي جغفر العلاق:
كان مساء لندن، خارج القاعة ، ممعناً في طراوته الرمادية. وكنت أتهيأ لقراءات شعرية في منتدى الكوفة، بينما يقوم فوزي كريم بمهمة التقديم.
كانت القاعة الصغيرة مكتظة بجمهور نوعي في إصغائه ومداخلاته، جمهور صقلته الغربة وعذّبه الحنين إلى بلد الأنهار والشعر والكوارث.
أحسست أن صوته، وهو يقدمني، كان يفوح من جدران القاعة محملاً بوعود الستينات وأمطارها البعيدة. وكان ذلك بعد الاحتلال ببضع سنوات.
يمكنني القول إن فوزي واحد من الشعراء القلائل الذين عكفوا على مشروعهم الشعري بمثابرة دائمة.
كان شعره، وسط صخب الستينات، ملاذاً لذاته المرعوبة. ومع أنه كان واحداً من شعراء الستينات، إلا أنني لم أكن أراه واحداً منهم تماماً. وحين اقترن اسمه بجماعة البيان الشعري، الذي أصدره مجموعة من شعراء ذلك الجيل، عام 1969 كان الأمر بالنسبة لي مثار استغراب واضح؛ لأن فوزي لم يكن منتمياً إلى عقيدة سياسية راديكالية كسامي مهدي، ولم يكن صاحب ادعاءات كبيرة في التجديد الشعري كفاضل العزاوي، كما أنه لم يكن كخالد علي مصطفى في جرأة مواقفه أو فظاظتها أحياناً.
لقد كان بعيداً عن ركوب الموجات المثيرة للجدل، وكان شاعراً بكل ما في هذه الكلمة من معنى، ولم يستمد قيمته من أية صفة أخرى غير الشعر. لذلك كان وجوده بين جماعة البيان الشعري طارئاً، وغريباً .
كان فوزي قد حسم أمره منذ البداية: ترك مهنة التدريس مبكراً، وكرس حياته للشعر والسفر والموسيقى بعيداً عن أي امتياز اجتماعي أو وظيفي: لحية خفيفة ووجه سمح، وصوت مفعم بالعذوبة وهو يغني قصائد السياب والبياتي وأدونيس، وأغنيات عبد الوهاب والمقام العراقي.
وكانت دراجته الهوائية التي يذهب بها إلى عمله محرراً في مجلة ألف باء، أحد مكملات صورته المعروفة.
غير أن ما يتركه اللقاء الأول من انطباعاتٍ لا يظلّ دقيقاً على الدوام كما يبدو، فثمة طبقةٌ أخرى قد لا تكتشفها في لقائك الأول.
إن هذا الفيض من البراءة البيضاء، ومظهره الذي يشبه مظهر النادم، أو الضحية، أو المتأمل قد يخفي وراءه، أحياناً، نرجسية عميقة أو اعتداداً كبيراً بالذات.
لكنك، في الحالتين ، لا تملك إلا أن تحبه و تأنس إليه، فهاتان الصفتان مشوبتان دائماً بطفولة عذبة أو شئ من المرح الجميل ، وهو قادر على اخفائهما بتلقائية يحسد عليها حقاً.
لقد مثّل ومنذ بداياته الأولى، نموذجاً للشاعر المفتون بحلمه الشعري، والمستعد للتضحية من أجله بنعمة الوظيفة، ومباهج العائلة، وقد أعجبني فيه انقطاعه إلى الشعر وافتتانه بالحياة معاً: كان مقبلا على الحياة دون ابتذال ومبتعداً عنها دون ذبول أو عزلة.
وانسجاماً مع ميله إلى الحيطة وتجنب المواجهات اكتفى من الحياة، أو كاد، بهامش مشقوق كلسان الأفعى يتحرك فيه: بين ليل الحانة ونهار الوظيفة.
ولم أكن أتوقع أن يصل فوزي كريم، في موقفه من الحداثة الشعرية ، إلى التخوم التي وصلها أخيراً، مع أن شاعراً مثله ، بموهبة ممتازة وذاكرة شجية، لابد أن يجد نفسه غريبا على هذا المشهد الشعري الملئ بالادعاءات، وتبادل المنافع، والذي يتحرك، أحياناً، بعافية زائفة.
كان فوزي جريئاً، في تعريته لهذه الظواهر حتى بدا لي، في بعض الأحيان، عدوانيا على غير عادته، كما بدا في أحيان أخرى، وكأنه منقطع، حد الإدمان ، إلى نموذج شعري لا يرى أفقا غيره، ولا نافذة سواه.
ومع ذلك، فإن حياتنا الشعرية في حاجة ماسة إلى من يقف ، بجرأة، أمام هذا الطوفان الشعري الذي يعترض معظمنا على معظمه سراً، لكننا نندرج في سياقه علانية لا نتحرج منها.
وإذا كان فوزي كريم قد بدا في مجلته (اللحظة الشعرية) نافد الصبر ومستاء، فإنني كنت واثقاً أن هذا الانفعال العاصف سينتهي به، ذات يوم، إلى موقف نقدي أكثر احتكاماً إلى المعايير.
إن النقد، لدى فوزي، ليس رطانة، بل انغمار في روح النص، و معانقة لحرائقه الداخلية. ومع أنّه لا يلتزم، في الغالب، منهجا نقدياً محدد المعالم، ولا يحتكم، في أحيان أخرى، إلى أبنية النصوص قدر احتكامه إلى ذائقة قابلة للنقاش، إلا أن النقد الذي يكتبه يظل نقداً نستمتع به ، ونحتاج إليه: إنه النقد الذي يرى في القصيدة تجربة روحية عميقة، وجهداً تخيلياً شديد الإثارة.
حين عرفته للمرة الأولى لم أكن أدرك أن هذا الوجه الطفولي، المرح، الحزين يخفي وراءه كل هذا التوتر والارتياب والأسى. مظهر غارق في هالة من التصالح مع الأشياء والناس والحياة، لكنه يتشظى في الوقت ذاته كالزجاج أمام قلق روحي محتدم: يندفع بصمت، ويتنامى على مهل.
كان قادراً على كبح ردود أفعاله، وتذويب أكثر انفعالاته خشونة، بعذوبة الطفل، ومرح العابث. كنت أحسه ينسحب من الحياة إلى الحلم، ومن فظاظة الخارج إلى دفء الذات وكأنه يهرب من انفعال الجسد إلى بهاء الداخل.
وبذلك كانت انفعالاته الآنية، وردود أفعاله قابلة للتأجيل على الدوام. وكأنه يدفع بها إلى الداخل لتختمر ، وتتشابك، وتصبح جزءاً من مكونات فعل شعري مكتمل وبطئ، بدلاً من أن يجعل منها محفّزاً لانفعال حياتي متعجل لا يعمر طويلاً.
كانت القصيدة بالنسبة إليه، هي الرحم التي يعود إلى دفئها وغموضها هرباً من نهار الحياة الصاخب، وما يستدعيه من مواقف ومواجهات.
وهكذا كنت أحس أن الشاعر، في فوزي كريم ، هو الأقوى دائماً من الإنسان ، كما أن القصيدة، لديه، أكثر بهاء من الحياة، وأعمق جدوى منها .
وهو حين يتفحص أشياء الحياة ومواقفها فإنه، في الغالب، لا يفتت كثافتها بالاستطراد ، ولا يهتك دلالاتها الخفية بالمباشرة ، بل يلمسها برهافة شديدة.  

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى