مقالات

مقاربة جمالية من واقع نظرية التلقي في .. رواية «مقتل دمية» للسعودي حامد الشريف

بقلم – دكتور جمال الدين علي:

إن الاختلاف الذي أوجدته نظرية التلقي “ياوس وايزر” من وجهة نظر النقد المؤسسي, هو أنها اهتمت فيما اهتمت بالفهم لا بالقراءة وحسب. بحسب دكتورة نعمات كرم الله ( إن جمالية التلقي تجعل من الفهم بنية من بنيات العمل الأدبي نفسه ليصبح الفهم هو عملية بناء المعنى وانتاجه وليس الكشف عنه أو الانتهاء اليه).

تبرز أهمية بناء المعنى المقصود بالفهم المنظور في أفق التوقع للمتلقي, سواء كان ذلك المتلقي قارئا ضمنيا أو قارئا مثقفا أو قارئا متعمقا أو قارئا مفكرا من واقع التجربة الابداعية وتأثيرات المد والجزر للعمل الفني في فضاءات الخيال. وحيث أن المتلقي هو المعني بالمسألة الإبداعية برمتها, فنحن هنا نحاول من خلال نص مقتل دمية للكاتب السعودي حامد الشريف عقد مقاربة استنطاقية لمفهوم جمالية التلقي, نهدف من خلالها إلى تفكيك بنية المعاني الكامنة في لب النص واعادة بناء معاني جديدةوفقا للنظرية, و للمزيد من فهم المعنى أبستمولوجيا للمساهمة في بناء وتأسيس أفق جديد يكون مرتكزا ومنصة تفاعلية تنطلق منها الأفكار بعد أن تتحرر من قبضة العقل,وللمساهمة في رحلة البحث عن متعة مضمرة هي بمثابة دوائر لا متناهية في جدلية التأويل واعادة التأويل.

ومما لا شك فيه أن الكاتب أو المبدع يبذل جهدا ومعاناة كبيرة في عملية غامضة ومعقدة, حتى يخرج نصه الابداعي للمتلقي, وبما أن العملية الابداعية تقوم في الاساس على أضلاع متشابكة يمثل فيها المتلقي ضلعا هاما, فلابد له من بذل جهد مقدر لفهم النص وهضمه واستيعابه بواسطة مستقبلات الذائقة الحساسة لديه. إن المعنى الكامن في أي نص, لا ينبثق من مواطنه, ألا بعد انبعاثه من المتلقي نفسه, وبذلك يكتسب أهميته, اذ أن مقياس جودة النص يحدده أولا وأخيرا المتلقي.

تقول سارة بطلة النص وهي فتاة عربية شابة والتي جاء السرد بصوتها في غالبية الفصول.

(أكثر ما يهمني تلك الكوابيس التي أجبرتني على المضي قدما في هذا الطريق) ص 45. هنا قد ينطوي سؤال من صيرورة الأحداث وتشظيها الى ذكريات وأصداء في فضاء التأويل واعادة التأويل. ما كنه تلك الكوابيس التي تدفع المرء للمضي قدما في طريق الحياة؟

ربما ليس من ثمة اجابة قاطعة على السؤال, لكن سارة نفسها تقول ( حسنا أظن أن هذا الكتاب سيحقق نجاحا كبيرا بحكم أن الكاتبة فتاة أظنكم تدركون أن قومي سينجحونه وإن من باب امتهانهم لنا نحن معشر النساء). ص 44.

الخطاب في تمظهره بهذا الشكل يبدو لوهلة من سارة مباشرة إلى نفسها, ولكننا لو أمعنا النظر نجد أنه موجه بتقنية اسقاطات الظل إلى المتلقي, تعتمدهذه الطريقة,طريقة التحدث أمام المرآة على ذكاء كبير حيث يظهر لناوجه خفي من خلفه عدة وجوه متتالية تبحلق لنكتشف أنها وجوه المتلقي الذي بشكل أو بآخر أشركتهسارة في هجسها, وجعلته متورطا بشكل أو بآخر, فهو هنا ليس متلقي متلصص وحسب بل شخص مشارك في صناعة الحدث. شخص فاعل لدرجة أنه قد يسأل نفسه هل حقا أنا كذلك؟. هذا المتلقي ومن خلال العلاقة الحميمة الناتجة من توجيه الخطاب إليه مباشرة, يستقبل اشارات ضمنية, فهي ترسل الاشارات وهو يستقبل, لكنه يعيد فك الرموز و تحليلها واعادة تركيب المعاني وترتيبها من منظوره هو وفقا لثقافته وفهمه. فيجد المتلقي نفسه قد تورط فعليا في اللعبة, ومن خلال اللعب على أوتار حساسيةالأسئلة الشائكة المغلفة ينطلق صدى الصوت الداخلي و يتردد صاعدا إلى الذهن.

إن صراع المرأة لتحرير نفسها من قبضة مجتمع ذكوري, وعمليةالانسلاخ عن العادات والتقاليد والأعراف, صراع الذات وحالة الفصام التي تعيشها المجتمعات العربية, كل ذلك يشكل ثيمةأساسية للنص, وقد نسجالكاتب من خلال هذه العقد المتشابكة خيوط اللعبة السردية,واستخدم في ذلك تقنيات السرد المعروفة. تيار الوعي, الأحلام, التداعي الحر, التقديم, التأخير, التقطيع السردي و المونتاج السينمائي.

في هذا النص ومن خلال الوصف الحي الدقيق للشخوص و المكان والبيئة وحركة الحياة, ولغة الجسد والحوار, يجد المتلقي نفسه أمام مشاهد سينمائية, تتطلب منه قدرا كبيرا من التركيز وسعة الأفقلكي يعيد عملية تركيب الصور واللقطات والأحداث في ذهنه واعادة انتاجها من جديد.هنا يعتمد الكاتب الذي هو شخصية ضمنية في النص (راوي ضمني) خاصية الارسال والاستقبال أو النظرية التواصلية ( إن نظرية التلقي التي اعتنت بالقارئ ووقفت أمام اقصائية المناهج النقدية وانفتحت على تعدد المناهج باتت خلطة ابستمولوجية جيدة. لو أنها منحت مؤلف النص اهتمامها بالقارئ لأصبحت نظرية متكاملة ولأصبح أن يطلق عليها نظرية الارسال والتلقي… الارسال والاستقبال. أو النظرية التواصلية). الدكتور فهد البكر.

عندمايصبح المتلقي جزءا أصيلا في بناء المعنى ويرتفع مع هذه الحالة من الاندماج أفق التوقع, ومع التقدم في المتن وتفكيك الرموز وحلحلة العقد يتلاشى أفق الانتظار, وتتسع المسافة الجمالية كلما توغل المتلقي أكثر في الفهم وليس القراءة,يحدث ما تعارف عليهبالمصطلح النقدي اندماج الأفق, مما ينتج عنه بنا أفق جديد يعتمد في تأسيسه على نوع المتلقي نفسه( مثقف. متعمق. مفكر. دارس… الخ).

في رحلة البحث عن الذات قد يغادر المرء نفسه حين يكتشف أنه لابد من عزلة. في تلك العزلة تتفجر الأسئلة. هل حقا نحن نعرف ذواتنا تمام المعرفة؟

هل يستطيع المرء في تلك الرحلة اعادة اكتشاف ذات جديدة ويسعى لتطويرها؟

تقول سارة ص 85 ( عندما بدأت أخطط لهذه الرحلة اعتقدت أن فيها نهاية أحزاني). وتواصل فيالبوح (بت لا أتقبل شيئا من الحياة التي أعيشها في بلدي). الملمح العام هنا يطرح أسئلة مخفية وهذا يعني أن ثمة فكرة أو حلم قد بدأ ينمو وحينما تتبرعم الأفكار و تتبلور من حلم ما ربما تصبح ثمرة للحقيقة (الأحلام هي الحقيقة الوحيدة) فيليني. سارة آمنت بحلم, بفكرة. (أقوى شيء في الكون كله أقوى من الجيوش وأقوى من القوة المجتمعة للعالم بأسره هي فكرة آن أوان خروجها الى النور) فكتور هوجو.

هل أرادت سارة اخراج فكرتها إلى النور, فغادرت ذاتها. انتقلت إلى عالم آخر, فضاء جديد, أناس جدد, حياة جديدة؟

هذه الأسئلة الشائكة والمعقدة يطرحها النص بجرأة كبيرة.

يقول الشاعر الشيلي بابلو نيرودا.

يموت ببطء من لا يركب المخاطر ليحقق الأحلام

من لم يحاول مرة في حياته التمرد على النصائح

لطالما انشغل الذهن الأدبيالعربي بالعلاقة بين الشرق والغرب. وإن كان الفضاءان الثقافيان الشرقي والغربي منفصلان بصرامة ويشكلان صدمة حضارية عند الرواد ( طه حسين, سهيل إدريس, حقي, منيف, الطيب صالح وغيرهم). حيث تقف الشخصية الأساسية مأزومة الهوية على الحد الفاصل متذبذبة بين الفضاءين, نجد أن شخصية البطل في السرد الحداثوي وما بعده, ومع انفتاح العالم نتيجة لثورة الاتصالات,التي قربت المسافة بين قيم الشرق والغرب, استطاعت نوعا ما أن تكوّن هوية جديدة. هوية هجين تبدلت من خلالها العقلية الثقافية لموقف أكثر تسامحا حيال الآخر.  ويبقى الحب هو الجسر الذي تعبر من فوقه تلك الحمول الشرقية, إلا أن سارة الفتاة العربية المسلمة المحافظة في سبيل اضاءة نور الحلم, وايقاد شعلة الفكرة تأبى إلا أن تخلق صدمة للعقل الذكوري العربيالمتسلط بعلاقتها مع بيرنارد الشاب الأبيض المسيحي.

(قد تزهر أحلامنا بانسلاخنا عن محيطنا).

عتبة داخلية بالنص ص 198. هذه العتبة وإن جاءت متأخرة بعض الشيء في المتن, تعتبر عقدة مفتاحية من المنظور الفلسفي لفهم التحولات التي تطرأعلى النفس البشرية ( أنا على يقين إنني إن أحببته لن أتوانى عن إظهار جنون يكمن في أعماقي يصعب قمعه). سارة ص 116. تنتزع سارة شخصية من أعماقها ذات جديدة, تنسلخ من كل القيم والمبادئ والموروث, تفجرها أو تفجر نفسهاأمام المتلقي( لا أعرف حينها سبب ما قمت به إلا أنني ودون شعور مني, اقتربت منه ونزعت النقاب عن وجهي والغطاء عن رأسي, ظهرت أمامه بكامل زينتي بل بالغت بثر شعري بطريقة مستفزة). ص 91.

هل بهذا الفعل تحررسارة نفسها, تتخلص من الدمية التي ظلت تطاردها في كوابيسها؟

لعل الاجابة على هذا السؤال وغيره من الأسئلة تكمن بين طيات256 صفحة من القطع المتوسط يضعها الكاتب السعودي حامد الشريف أمام المتلقي في سرد جاء بلغة شاعرية  رومانسية وأحداث درامية سحرية مشوقة.

 

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى