مقالات

فى مجالس العزاء و فنونه

و فى الزوايا يقايا من بقاياه

بقلم- دكتور صالح الشحري :

وعيت صغيرا على مجالس العزاء فى غزة، و كطفل شكل لى الأمر نوعا من التسلية، و إن كان فى النفس شيئ مما يستثيره بكاء و تعديد أهل الميت عليه من أسى ، بقى فى نفسي منه أنه حالة طقوسية تستدعيها اللحظة، ما لفت نظري بأثر رجعى هو أن عزاء البيت مفتوح ليلا و نهارا ، حتى أن اهل الميت لا يجدون فيه وقتا للانفراد بانفسهم و الراحة ،و لعل استبدال اعباء الضيافة بالحزن على الميت و تذكر أحواله نوع من التسرية المزعجة عن النفس.

فى السعودية حيث عشت منذ سن السادسة ، يقابل الناس الموت بصبر عجيب ،حتى لتجهد فى تبين آثار الحزن على وجوه اهل الميت ، و جلستهم للعزاء فى تلك الأيام البعيدة لم تكن تتميز بشيئ عن مجالسهم اليومية، حيت يتحدث الناس بعد جملة او جملتين للعزاء فى احوالهم الدينية و الدنيوية ، و ان تميزت بعض العزاءات التى تسببت فيها فجائع السيارات من قدر اكبر من مأساة الحزن ، و بقى هذا الشكل حتى سكنت مدينة جدة منذ عشرين عاما أو يزيد.

فى مصر يكتسب العزاء طقوسا اخرى ،إذ يُشغل الشارع امام البيت بصيوان ترتفع علي جوانبه شوادر من القماش الذي يطغى عليه اللون الاحمر و هو لون فرائحى و ربما اختير لذلك و عليه اشكال هندسية فنية ، كانت تسترعى انتباهى ، و الجالسون قريبا من اهل الميت عادة يطأطئون رؤوسهم و يظهر عليهم الحزن ،و لكن طأطأة الرؤؤس تتحول الى تحريكها طربا يمنة و يسرة إذا استأجر الأهل قارئا مجيدا للقرآن ، فإذا توقف الشيخ للنفس الطويل قال البعض بصوت عال و قد أخذ الطرب منهم مأخذه : الله الله يا عم الشيخ ، و قد يقولها اكثر من واحد فيعلو التنغيم ، أما اذا جاء مجلسك فى الأطراف ،فيمكن أن تلتقط بعض التعليقات الطريفة….أى الحراقة على رأي أحبابنا المصريين ، فى مصر طقوس الحياة ذات بهجة حزنا كانت أو فرحا ، مواسم دينية أو دنيوية.، صلينا التراويح مع اصدقاء فى مسجد المرسي ابو العباس لنأنس بطلعة الشيخ عاشور، و عند خروجنا وجدنا صيوانا كبيرا فانتظرنا قليلا ،صعدت فرقة فنية تغنى غناءاًجماعيا ، و جمال كلماتها أبقانى من يومها حائرا بين البيض الأمارة ، و السمر العذارى ،و بعادهم خسارة، بضم الخاء، و هى لازمة سكندرية،

بعد ذلك علمت أن كل هذه الطقوس جاءت من دولة التفاريح و التباريح ، الدولة الفاطمية ،حسب المؤرخ جمال بدوى ، إذ تفننت الدولة الفاطمية فى الدعاية للدين بمظاهر دنيوية ، و كان خلفاؤها يتكفلون فى المواسم بتوزيع حلوى العاشورة و اشباهها على الناس، و ليس كالحلو و الغناء أكثر بهجة للعقل و تسلية الاحزان.

فى مدينة جدة ،و هي بلد يتفنن اهلها فى طقوس الحياة ، تكون مجالس العزاء محدودة فقط ما بين صلاتى المغرب و العشاء ، فيأتى كل الناس فى ذلك الوقت فقط و لا يأتون فى غيره، و فى أيام العزاء الثلاثة قد تحتاج إن تأخرت قليلا إلى أن تمشى من حيث أنخت سيارتك عشر دقائق حتى تصل إلى موقع العزاء ، يتفنن أهل جدة فى تحديث مجالس العزاء ليكسروا الصمت الذي كان سآئدا ، فيأتون بمقرئين ، بعضهم يلبس العمامة الحجازية بهيجة الألوان ، يقرأ القارئ خمس دقائق ثم يقف خمسا، و هنا يقوم الناس ليعزوا اهل الميت و ينصرفوا ، و هكذا يدعون المجلس لغيرهم ، و يغادرون بأناقة ،ثم يبدأ الإمام مقطعا اخر من التلاوة، و يغلب على القرآءة مقام حجاز الرخيم ، و قد انتشر أيضا دعوة الناس الى العشاء كل يوم، يقدم العشاء لمن حضر، و من يقدمه هو الاقربون عادة ، و ان كنت أري فى هذا تكلفا ،لانه اصبح ملزما حتى للعائلات الفقيرة التى قد لا تجد من يقدم الطعام بإسمها فتتكفل عائلة الميت به و هذا بخلاف السنة ،و يغلب على عشاء العزاءات فى الحارات الفقيرة اجتماع كثير ممن لا علاقة لهم باهل الميت و لكنهم اتوا للعشاء ، و لعل فى هذا ما يبرر قول المشايخ أن الجلوس للعزاء بدعة و ان العزاء إنما يكون فى المقبرة . مشكلتى مع العزاء بين المغرب و العشاء انتى لا استطيع الراحة و اخذ سنة من النوم بعد العمل فى فصل الشتاء الذى يكون فيه المغرب قريبا من وقت انتهاء العمل ، فأؤدي الواجب ثم اعانى من عدم اكتمال اليقظة و عدم اكتمال النوم و اشعر بارهاق كبير ، يزيد من ألمى على الميت.

ثم جاء الفيسبوك، فاصبح العزاء بالعشرات يوميا ،و لا أدري هل لذلك علاقة بالكورونا أو لان معظم أصدقائى فى نهاية الخمسينيات مثلى ،و قد اصبحوا فى السن الذي يجتهد فيهم داعى الموت ، و تفسيري الاخر أن مجتمعاتنا مع تطاول العمر بفضل الله ثم توافر الخدمات الصحية قد كثر فيه المعمرون فكثر فيهم الموت ،إضافة لذلك وجود الصهاينة و جرائمهم على الشعب الفلسطينى و ضحاياهم اليومية.

إذن تحول الفيس بوك إلى مجلس عزاء كبير ،و صعوبة الأمر علىً انك تنسى ان كنت كتبت عبارة العزاء ام لا ،و تذهب تراجع كل من علق لتعزي ان فاتك العزاء ،و اظن ان حرص الناس على ذكرى وفاة احبابهم هو ميل للحزن مغروس فينا و نوعا من التعزي بما يصيب الناس،و رحم الله عمتنا الخنساء

و لولا كثرة الباكين حولى

على اخوانهم لقتلت نفسى.

الامر الذي يشكل على أحيانا، هو ما اصبح أصدقاء الفيس بوك يفعلونه من تذكر امواتهم فى ذكراهم السنوية ، خاصة و أن الفيسبوك يعيد اليك ذكراهم، و هو من الوفاء ،و لكننى اراه مبالغة فى استدعاء الاحزان ، و الكتابة عن مآثر الفقيد ،و هذا ما تطغى فيه المجاملة ، خاصة حين يبدأ الأصدقاء فى كتابة عبارات العزاء التى تحيرنى هنا ، هل اكتب عزاء جديدا ام ابحث عن عبارات أخرى ، لكن العبارة التى يهجس بها مخى كثيرا و التى لم أجرؤ على كتابتها بعد هى أبيات نزار قبانى:

هذي صحيفته فى الركن مهملة

هنا كتاب معا كنا قرأناه

على المقاعد بعض من سجائره

و فى الزوايا بقايا من بقاياه

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى