مقالات

القانون لا يحمي أصحاب المروءة والشهامة

بقلم- نايف مهدي:

القانون لا يحمي المغفلين، جملة تتضمن مقدارًا من الحصافة في الرأي وشيئًا غير هين من القساوة في الحكم، تلك الجملة، لطالما تشدقنا بها كلما اطلعنا على قصة رجل منكوب، مخذول بدافع من شهامته وسلامة نيته، التي يرى بها وجوه الأصدقاء والقرابة، ولكن حقًا أهو بالغ إلى ذلك الحد من  السذاجة الرعناء، أم هم على تلك الدرجة من النذالة والخسة والحقارة؟.

سؤال عصيب تتشعب منه الأجوبة وتصطفق، وتحار فيه العقول الفهيمة، وتتلجلج الألسن في الأفواه، إذ هل نعيب على الصادق صدقه في تعامله، ونضرب على أيدي النخوة والأريحية بسياط اللوم والتقريع، أو نأخذ بخناق المعتدي على الأموال والحقوق والصداقة والشرف وندينه بفعلته المخزية، دون أن نغرز أصابع التوبيخ في جرح المخدوع؟! وإذا فعلنا فهل بمقدورنا أن نسم هذه الطغمة الجائرة بعلامة فارقة كما توسم آذان البهائم كي نريح الخلق من أذاهم؟! كلا، إن ذلك ضرب من المستحيل، وحل يتعذر علينا تنفيذه إلا لو حالفنا النجاح في أن نصنع من أوراق القراص أغطية وثيرة، ذلك أن النيات والدوافع والمقاصد تقبع خلف ألف جدار وسور متين.

صحيح أن هناك بين البشر أناسًا لا يتورعون عن سرقة اللقمة من فم الجائع، أناسًا خونة أنذالًا بكل ما تعنيه الكلمة، لكن لا يسعنا أن نسحب هذه الصفات على الجميع، وإلا لكان هذا الحكم قد طالنا نحن أنفسنا من دون ريب، فالنفس البشرية مسكونة بعوامل الخير والشر، مترعة بالخصال والخلال المتضادة، التي تظل تعترك وتتصارع مع بعضها البعض طوال العمر.

فمثلًا، قد ينقبض صدرك لدى مرأى شخص ما، ويأخذ هذا الانقباض في التحول، شيئًا فشيئًا، إلى كراهية مضمرة ومقت دفين، لكن سرعان ما تكشف لك الأيام أنه رجل مأمون الجانب، وأنك كنت مجانب الصواب، وآخر إذ تلتقيه، أول ما تلتقيه، يفيض قلبك بالبِشر، وتخايل فيه أمائر صون الصديق وحقوق المصاحبة، فهو سباق للترحاب بك كلما أقبلت ظلالك، منافح عن سمعتك حين يلغ في إنائها الغير وقت غيبتك، لا يتخلف عن تفقدك مريضًا كنت أم معافى، ويفهم على الفور ما يمور في عينيك قبل أن يتحرك لسانك، ويظل، بوجهه البسام، يمطرك ويغمرك بفضله حتى تستوثق منه، وتقاسمه ذات صدرك، ثم لا تلبث هذه الصداقة الممتازة أن تتمخض، من جانبه، عن قرار كفالة مالية ضخمة، أو مشروع اقتراض أموال من شأنها أن تثقل كاهلك، بيد أنك تمتثل لغوثه ومساعدته بوجه طلق، نظرًا لما كنت تلمسه فيه من وجوه البر والأُخوّة.

لكن، ما إن يتحصل على طلبه حتى يصبح أثرًا بعد عين، فصًا من الملح المتلبد تلاشى في كوب من الماء الساخن، وقس على غيرها الكثير من المنافع الأنانية. والغريب أن كلا الرجلين قد يُظهران سلوكات مغايرة مع غيرك من البشر بحيث لا تتفق هذه التصرفات وسلوكهم الذي خبرته، وهكذا هم البشر في سعيهم الحثيث، الذي يشبه دبيب النمل الأحمر حول جناح جرادة نافقة، لا يتوقفون لحظة عن تبديل الأقنعة، وتغيير الجلود، وشحن الألسنة بما يتوافق ومصالحهم الشخصية.

وإنني، والحال هذه، لأقهقه ملء شدقي، أقهقه بصوت داوٍ حتى تدمع عيناي، وأمد لساني هازئًا من المقولة الشهيرة: “اللسان مرآة القلب”، إذ إن اللسان ساتر غليظ، تحتجب القلوب وراءه، لكي تحبك الأحابيل وتنصب المصائد، وتشحذ النصال. وفي نهاية المطاف، أقول لكل من جعلته مروءته مغفلًا وأحمق في نظر المجتمع، إياك أن يغرب عن فهمك ما قاله المتنبي ذات يوم: ” ومن العداوة ما ينالك نفعه، ومن الصداقة ما يضر ويؤلم.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى