إبداعاتالأخبار الثقافية

جدلية الواقع والأدب

دراسة نقدية بقلم _ الشاعر والناقد عبد الحافظ بخيت متولى، مدير عام الثقافة العامة لقصور الثقافة:

إن الأدب لا يمكن أن ينفصل عن سياقه المجتمعي، وكل نص أدبي هو تجربة اجتماعية تعبر عن واقع له اشتراطاته التاريخية والاجتماعية، وكل مجتمع يلقي بظلاله على صيرورة العملية الإبداعية، بل ويوجه مساراتها الممكنة في كثير من الأحيان، فلا أدب بدون مجتمع، ولا مجتمع بدون أدب لذلك تجتهد هذه الورقة البحثية لتقديم رؤية منهجية حول طبيعة العلاقة بين الإبداع الأدبي والانساق الاجتماعية من خلال العلاقة القائمة بين علم النقد الأدبي لإنتاج معرفة علمية بالظاهرة الإبداعية ومدلولاتها النصية الاجتماع والنقد الأدبي، باعتباره علما من العلوم الإنسانية التي اعتمدها.

والأسئلة التي تثيرها هذه الورقة متعددة ومتشعبة منها: ما مفهوم العلاقة بين ِالإبداع الأدبي والأنساق الاجتماعية؟، كيف يمثل نموذج الأدب في البحر الأحمر هذه العلاقة ويؤطرها؟، هل نجح هذا النموذج فى تقديم شكل فنى واع لهذه العلاقة”.

بين الإبداع والواقع

إذا سلمنا بان هناك علاقة جدلية بيت الإبداع والواقع و الأنساق الاجتماعية في البيئة التي يخرج منها الإبداع فإننا نؤكد على أن هذه العلاقة هي علاقة تبادل معرفي وجمالي، ويجب أن ننظر إلى الواقع من خلال الإبداع “والإبداع من خلال الواقع بوصفه – أي الإبداع – جزء من معطيات ثقافية واجتماعية مكونة للوعى الجمالي والمخزون المعرفي للمبدع ،ومانحة المبدع آليات النظر للحياة بشكل عام”1″.

ولذلك لا يجب أن ننظر إلى الإبداع على انه شكل جمالي فقط يخضع لحساب النظرية الهندسية ،بل يجب أن ننظر إليه أيضا بوصفة مرآة تعكس الواقع وتعمل على تشريحه وتقرأ ما خلف هذا الواقع ،بل وتحيله إلى رؤى مستقبلية قد تكون سببا فى تغييره ولذلك يري احد الباحثين” أن من الأصناف الأكثر انتشارا بين العلماء صنف الإحصائيين الذين يفتتون الحقيقة إلى أجزاء دقيقة ويفقدونها قيمتها إلى حد يصعب علينا التمييز بين أجزائها فهم فى مقابل الحفاظ على دقة مناهجهم وصرامتها ينجحون فى جعل المجتمع والإنسان تافهين”2″.

وهذا يعنى أن الإبداع لا يتحمل صرامة المنهج الذى يتعامل مع الشكل ويهمل الموضوع ،مما جعل الإبداع معزولا عن الواقع ويسهم في توجيه واعية بعض المبدعين إلى الاهتمام بالشكل على حساب الموضوع، بل تأكد عند البعض أن النقد الموضوعاتي أصبح لا قيمة له، وفى هذا مغالطة كبيرة فالموضوع رسالة تسعى إلى تغيير الواقع وترتبط به إلي حد كبير، ومن ثم تسهم في توجيه الواقع وكشف أبعاده بشكل جمالي.

إن القيمة الذاتية للإبداع الأدبي أو أدبية الأدب لا تنفى الاهتمام الأساسي بالوظيفة الاجتماعية للإبداع الأدبي، وانحيازه الاجتماعي ،وموقعه في أرض الواقع، فالإبداع الأدبي ليس خطابا جماليا فحسب، ذلك لأنه خطاب تنويري تقدمي إنساني في المقام الأول، وتتصاعد أهمية الوظيفة الاجتماعية للأدب في ظل ظروف المجتمعات النامية، حيث يصبح الإبداع الأدبي أداة من أدوات التقدم وتعرية التناقضات الاجتماعية، والكشف عن أوضاع الظلم والقهر والفساد والتبشير بمجتمع أكثر عدلا وإنسانية وتحررا.

من هنا تتحدد العلاقة بين الإبداع الأدبي وبين الأنساق الاجتماعية للواقع الذي يعيش فيه هذا الإبداع، وينشأ محمولا على معطياته الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية.

وفى تقديري أيضا أن الإبداع الذي لا يعبر عن اللحظة الحضارية والبيئة التي يخرج منها يصبح غريبا غربة أهل الكهف ،حيث يذكر “بودلير” أن وظيفة الإبداع الحقيقي هو من يعرف كيف ينتزع من الحياة الحاضرة وجهها الملحمي وان يكون تجسيدا لعصره”3″.

ومن هنا, يمكننا أن نعتبر أن المبدع قوة اجتماعية عظيمة التأثير وخطيرة الشأن، وانه عنصر من عناصر الحضارة لا يحوز إغفاله.

فرواية الحرام ليوسف إدريس كشفت – في حينها – عن واقع عمال التراحيل المرير، ورواية الأرض لـ “عبد الرحمن الشرقاوي” كشفت عن الظلم الذى يتعرض له الفلاحون، ويعرى “نجيب محفوظ” في روايته “ثرثرة فوق النيل” ممارسات المثقفين الزائفة في ظل التحول الاشتراكي وتكشف أعمال أمل دنقل الشعرية عن هزيمة الوطن تاريخيا وسياسيا واجتماعيا.

والأدب بهذا المعنى يعد إضافية كيفية – لا كمية – إلي الواقع من خلال كونه عملا منتَجا مشروطا اجتماعيا وتاريخيا بسياقه الاجتماعي ولذلك يؤكد “يونج” على أن المعرفة الأدبية لا تكون لها ذات إلا إذا كانت تعبر عن سياق اجتماعي محدد”4″.

ولذلك فإن العلاقة ين الإبداع الأدبي والأنساق الاجتماعية، تعنى أن الإنتاج الإبداعي يعبر عن ثقافة معينة بمكوناتها وطبيعتها وطبقتيها، فليس هناك ثقافة كلية، بل ثقافة تنتمي لطبقة اجتماعية في أوضاع اجتماعية معينة، ولحظة زمنية راهنة، والمبدع يتأثر بكل هذه المؤثرات والقوى فيما يكتبه، ويربط نقاد علم الاجتماع الأدبي السياق الاجتماعي بالتفسير الاجتماعي للأدب، فيرى ” جولدمان” أن “التفسير الاجتماعي للأدب هو أحد العوامل الأكثر أهمية في تحليل العمل الفني”، وهو يسمح بمقدار ما تنتجه المادية الجدلية بفهم مجمل العمليات التاريخية والاجتماعية لعصر معين بشكل أفضل، وأن الجوهري في هذا المجال هو العثور من جديد على الطريقة التي تم بها التعبير عن الواقع التاريخي والاجتماعي عبر الحساسية الفردية للمبدع في العمل الفني”5”.

ويمكننا أن نخلص من هذه المقدمة النظرية إلى أن لعلاقة بين الإبداع والأنساق الاجتماعية تعنى أن للأدب وظيفة تقدمية تجاه تنوير المتلقي، وشحذ وعيه ،والكشف عن حقيقة الوضع الاجتماعي ،وبالتالي خلق الدافع لتغييره ، ويرى “لوكاتش” أن أساس الأدب العظيم هو العالم المشترك للناس الذين يكافحون في المجتمع ويعملون في كفاح مع بعضهم وليسوا سلبيين لا يحس أحدهم بوجود الآخر”6″.

من خلال المفهوم السابق لطبيعة العلاقة بين الإبداع الأدبي والأنساق الاجتماعية يمكننا أن نرصد هذه العالقة من خلال:

* قراية تانية للجسد، ” ديوان عامية “، عبد اللطيف مبارك

ونؤكد مسبقا على أن هذه الدراسة سوف تقف عند حدود بعض الأنساق الاجتماعية السائدة ورصدها من خلال إبداعات هذه النماذج والرؤي الأدبية جولها

الشعر والوطن والانتماء

لعل أبرز ما يميز شعر العامية في هذه النماذج انها جاءت مسكونة بالسؤال المعرفي عن رحلة الحياة، والمعنى الرابض وراء تعب الروح فى تحليقها نحو سؤال المعرفة وقوانين الحياة الاجتماعية المفتقرة الي موازيين العدالة ،وما يمكن أن يفضى إليه ذلك من سأم وعزلة وغربة وانسداد للطريق وارتطام بجدار العدم وتقلب في آفاق عبثية لا نهاية لها، هنا تبرز صورة العدم كنوع من الرفض للحياة الاجتماعية التي تطل بظلالها على تجربة المبدع وتوجه هذه التجربة على مستوى الدلالة المركزي والشرط الفني.

فلم يكن الإحساس بالعدم والغربة نزوعا تجريديا عند الشاعر بقدر ما يخفي وراءه بواعث اجتماعية وظروفا قادت إلي تلك النتائج، حيث يقول عبد اللطيف مبارك في قصيدة “نوبة عطش”:

الريق وجفت وسلمت

روحي لسوابقها القديمة

شق اللسان خد منى طولي

صبحت ملقي كما الرميمة”7″

فالشعور بالعدم هنا نوع من التعبير عن الرفض لواقع لا يحترم إنسانية الإنسان، هذا الشعور بالعدم في مقابل الواقع الاجتماعي جعل الانتماء يتقاطع مع الشعور بالعزلة ،فيأتي الانتماء مساويا للإدانة في نفس الوقت، وهذا ما جاء مجسدا في قصيدة “الكمين” للشاعر عبد اللطيف مبارك:

كانت بدايتك مؤلمة

كانت نهايتك ف الخداع

متفصلة

من غير صلا

كنت أعشقك

ولا حتى وثني للصنم

ولا كنتش أعرف

إن أخرة حبي ليكي للعدم

بين الندم”8″

هنا يصبح العمل الأدبي ليس نتاجاً خالصاً للكاتب، ولكنه تعبير وترجمة واضحة ومرموزه للشروط الاجتماعية التي تؤثر في الإبداع، وتحوله إلى واقع مواز يعيد تشكيل نسق الانتماء وفق شرط أيديولوجي وجمالي يتحكمان في الخطاب العام للمبدع، ويبدو واضحا أن الهم الوطني واشتراطات التعايش هي السمة الغالبة عند هذه النماذج الشعرية من شعراء البحر الأحمر، فهم يشكلون الوطن في نصوصهم بوصفه حالة ذهنية وليس وصفا جغرافيا حالة يتوسل الشاعر بالشعر ليعيد بنائها وتثبيتها في الذاكرة، وسيلته في ذلك اللغة وحركته في الزمان والمكان حركة حرة تقوم على التداعي فيصنع وطنا داخل القصيدة، وهذا ما يبدو واضحا عند “عبد اللطيف مبارك” المسكون بالوطن و الساعي إلى تأكيد الانتماء بالرغم من شعوره بالعدمية والغربة:

بطلق عنان الروح

مدى م يبوح

غير انى واحد من جنود أصلي

م املكش غير كلمتي تصلي

رمح اللسان مرشوق

م فوق سماه كرسي

لكن تريحني الحقيقة

حين ما ارضي اكون

فوق طعنتي مصرى”9″

وللدراسة باقية، أنتظرونا في حلقات أخرى ..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى