إبداعات

خمسة فناجين قهوة سادة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قصة:سمير الفيل

انحرفت نملة وهي خارجة من شق طولي في حائط قديم، تعلوه طبقة من غبار، وعنكبوت كسول راح يغزل خيوطه الترابية بمنتهى البطء.
كنت قد كتبت اسم ” ناريمان” بالطباشير على الحائط، ووقفت في وقت الظهيرة منتظرا إطلالتها من نافذة بيتها. وقد طال بي الانتظار، وإجازتي تكاد تنتهي حيث عليَّ أن أتوجه إلى معسكر الجلاء فلأركب قطار القاهرة ـ الإسماعيلية الحربي ومن هناك يعاد توزيعنا على كتائب المشاة.
انحرفت نملة، وكل كائن معرض للانحراف. حسين الطويل ابن عمدة قرية “المنيا” كان قد دفع مبلغا من المال، مقابل الدفع به في كلية الهندسة، وقد عصى نصائح أبيه وشغفته النساء، وحدث أن اختلى بواحدة من أهل الهوى، فهوى معها إلى القاع، وظل هناك يشرب أكواب بيرة مثلجة، ويسمع مطربا يصيح بصوت مشروخ ” نار يا حبيب نار.. فول بالزيت الحار”. كان عندما يغنيها وهو زميلي، وذكي عني بمقدار سنة ضوئية أسأله عن علاقة النار بالزيت الحار، فيشبك أصابع يديه ويتأملني مليا. يقول بصوت قد أجهده التعب: من لا يمر بتجربة حب لا يقبل تلك العلاقات الغامضة. خليك في حالك. ستموت وأنت تسير بجانب الحائط . صفق في طرف المقهى وطلب فنجان قهوة سادة.
انحرفت نملة، وظهر ابن خالتي عوض، وقد أسماه والده بهذا الاسم لأنه وقع في غرام فتاة ابنة ناس، طيبة, لكنها متزوجة ولديها بنتان يشبهان القمر. كان زوجها طيبا لكنه كلمها مرة في محل سوبر ماركت فحبسه صوتها الذي كان يشبه شلال من نور. انخطف، ودون موافقتها حمل عنها بضائع من السوق، مشى خلفها كالخادم. لقد نظرت بطرف عينها ورأته يحمل البضائع على كتفه الأيمن المائل بحكم سقوطه من بلكونة خاله المندوه، فجروا به ـ منذ عشرين عاما ـ إلى المستشفى فجبره الطبيب، وظل بالكتف المائل . يقال إن هذا الميل اتبعه رزق هائل لا يُعرف مصدره. الشيء الغريب هو انجذابه للصوت وتلك المرأة كانت قد ملكت قلبه، فينهض من نومه ليبكي لأنها مصونة ولا يمكنه لمس شعرة منها فحبه عفيف. وهو يتذكر شابا مسيحيا كان في فصله اسمه عفيف موريس عزيز كان يحمل فوق كتفيه من فرط قوته خمسة من الطلاب دون أن يتحرك قيد أنملة. و” أنملة” تعني طرف الإصبع وهي برسمها الكوفي تشبه “نملة” وشتان الفارق بين المعنيين. هو يجلس على طرف المقهى من الناحية اليسرى ينتظر أن تلوح له بيدها غير أنها لا تفعل. حين يراسلها عبر رسائل “الفيس بوك” يسألها : ” أتحبين الكلب أم القرد؟!” فتضحك وتلعلع ضحكتها التي يسمعها عبر الألياف الضوئية . تقول له :” أحب الزرافة” حين سألها : ” لماذا”؟ أخبرته وهي تضحك: عنقها طويل جدا وفي عينيها حورٌ مستحيل.
لم يتمكن طيلة ثلاث سنوات من لمس شعرة منها، وحين تأكد أنه لن يظفر منها سوى بضحكة “إلكترونية” وبعض الجمل الشاردة محملة برومانسية القرن السابع عشر، جلس على المقعد وصفق ليطلب فنجانا من القهوة السادة.
انحرفت نملة، وحين حصل عماد على الدرجة النهائية في مادة الرياضيات كان لكونه الوحيد في القطر الذي رسم ” شبه المنحرف” متساوي الساقين، وفيه تأكد أن كل ضلعين متقابلين متوازيين، أما الضلعان الآخران فيكونان متساويين في الطول. مد رأسه ورآه يقبلها في فمها وهي لا تبعده ولا تحتضنه، تقف كالتمثال المصنوع من الجبس، معرض في أي لحظة للتحطم. يعتصرها ويهمس في أذنها إنه لم يحب غيرها.
هل تعرف يا صاحبي معنى أن ترى أباك ملتصقا بفتاة، بكر، رشيد، وهو يهمس لها بأسرار غريبة ويبكي بدموع حقيقية وهي أقرب للجماد. وحين سمع صوت خرفشة، تراجع خطوة واصطنع الغضب . قال لها، ينهرها : كل شيء يحتاج للتنظيف من جديد.
أمسكت المنفضة وراحت تزيل الغبار الذي لا وجود له، وهي تحبك ملابسها، تمضي في عملها كخادمة أمينة، وأمه ـ الحاجة التي زارت الحرم وصلت في حجر إبراهيم ـ تبتاع من السوق زهورا، وحلوى، وشموعا كي تحتفي بعيد ميلاده العشرين. هل يتخطى فعلا عتبة العشرين وماذا عن سره الصغير ؟
الفتاة التي حلم بها ضبطها في أحضان الأب، الرجل الذي يحرمه من المصروف إذا شم رائحة فمه ـ بعد التمويه بمضغ اللبان ـ وعرف أنه دخن سيجارة.
انسحب من الشقة بعد أن صفق الباب بمنتهى العنف، فخرج الأب ليصرخ فيه: ارجع “يا ابن الكلب، يا غبي”.
حين أشاح بيده لم يكن معه ولا قرش، فجلس في مقعد بمنتصف المقهى وهو مفلس، صفق بفتور فجاء الجرسون وزعق فيه بدون سبب مقنع:” أفندم”؟
انتظر دقيقة حتى وجد فرصة ليتحرك لسانه فخرجت الجملة غريبة، ومتعرجة على شكل الزجزاج: قهوة سادة بلون القار!
انحرفت نملة، واحترف بيع جهده لأي امرأة عجوز قادمة من غرب أوربا، يعرفهن من سيماهن، يقترب منها بمودة، كاشفا عن ابتسامته فتحدق المرأة في بشرته السمراء، وقد تمتد يدها لتتأكد من قوة عصبه.
ينتهز الفرصة فيضع في رقبتها قلادة عليها أشكال لأميرات فرعونيات، يرقصن برشاقة، يحدثها بلغة تعرفها، يسير معها كالظل وهي تدفع بالدولار، وربما بالإسترليني. يحيط خصرها بذراعه وهي لا تمانع . يهبط وسط البلد ويسير معها حتى مرسى يطل على النيل، يؤجر مركبا بالساعة، وفي منتصف المسافة من الضفة للضفة المقابلة يمنحها قبلة فتنتشي وتمسك به كي يكمل مهمته. فإذا ما تراجع ألحت على مصاحبته لها. وفي الليل تشرب وهو يطل من نافذة الفندق على ضوء أزرق يشعل الجسد بلون مستحيل. تجذبه ناحيتها، وحتى يتقي غضب ربنا يكتب ورقة زواج عرفي ثم يمتعها، فتمتلئ جيوبه بالبنكنوت . حين يطلع الصباح تجره من شعره وترمي به خارج الحجرة. هو انحراف واضح كما تقول كتب علم الاجتماع في وصف الأفعال والسلوكيات التي تخرق أو تنهك المعايير الاجتماعية، بما في ذلك القوانين المسنونة.
يجلس مكتئبا رغم جيوبه المحشوة بالعملة الصعبة، يسأل نفسه: هل مزق الورقة أم أخفتها عنه؟ وهل كان الشاهدان رابحان من التوقيع على ورقة زواج عرفي، بيضاء بدون سطور؟
لو عرفت ناهد ـ حبيبته ـ بما فعل لأخرجته من حياتها، تراه شابا مكافحا، وهو يغامر مغامراته الليلية مقنعا إياها أنه مجرد مرشد سياحي . وهو عمل مربح جدا. لم يتوصل” فرويد” لمثل هذه العلاقة الشائكة. هل كان الرجل مغيبا وهو يدرس حالات مماثلة في المختبر. يصفق بيده طالبا فنجان قهوة سادة. يتركه يبرد ويمضي في شروده حتى يصل إلى باب جهنم. ينحي الحارسان ويقفز في النار وهو يبكي. بدموع حقيقية حتى يفقد رشده، يحمله الجرسون ومساعده، يمددانه فوق أريكة مكسوة بقماش أبيض يبدو كالكفن؟!
انحرفت نملة، وبكى منير وهو يكتشف إصابة زوجته بالسرطان. لم يكن بينهما حب، بل استلطاف وفهم وحديث مليء بالأحلام. عاشت معه خمس سنوات قبل أن ينشب الوحش مخالبه في جسدها فتقضي جل وقتها في إجراء الفحوصات والتحليلات ويتغير مسار حياتها فتترك طفلها الوحيد عند أمها قبل كل جلسة علاجية . تعود مجهدة فتتمدد على سريرها تخشى على طفلها اليتم المبكر.
بكاء منير على زوجته عواطف جعله ينسى موهبة التمثيل، كان البطل التراجيدي في مسرحيات وليم شكسبير. يتقن اللغة ويجأر صوتها بجمل عبقرية لهذا الكاتب الذي لم ير له غير صورة وحيدة بشعر مصفوف، وهو يلون صوته صعودا وهبوطا.
تجلس عواطف في آخر كرسي بالصالة وهي تحمل طفلها النائم تربت على ظهره، ترفعه لتقبله فيشعر بطعم القبلة في فمه. استولى على مرتبها فتضايقت ثم استسلمت للأمر الواقع . قالت لها أمها قبل اكتشاف المرض: ” ادخري كل ما تقدرين عليه، فالزمن غدار”.
تسأل نفسها بنحيب يزلزل كيانها :” هل هناك غدر أكبر من هذا المرض الغريب الذي حدث نتيجة انحراف الخلايا، التي راحت تنقسم بدون رقابة حيث إن لديها القدرة على اختراق أنسجة سليمة في الجسم “؟
تعود فيخرج ” ألبوم صور” لعرسهما، تشاهد حفل الزفاف وبيدها باقة النرجس، وقدها الرشيق، وهي تضع كفها الرقيق فوق كتفه ليرقصا على نغمات” فالس” بديع . حين ظهرت كتلة ناتئة من اللحم تحت الجلد ظلت تتحسسها بإصبعيها وهي قلقة. ظهر اللون الأصفر، وكشف عن أجزاء من جسدها فبانت قاتمة اللون، وحدث في ذات التوقيت بحة في الصوت، وصعوبة في البلع.
قال لها الطبيب وهو يخفف عنها شعورها بالظلم “يتولد المرض من جراء طفرة تحدث في سلسلة الحمض النووي الريبي المنزوع الأكسيجين، الموجودة في الخلايا”.
من حسرتها وقعت على الأرض، وقع شكسبير وهو يتنفس بصعوبة، ومنير يمد يديه لهما معا. لمح دموعها، استعان بخبرته في رفع النبرة ليصرخ في فضاء المستشفى : أكون أو لا أكون. تلك هي المسألة.
نال وجهه صفعة ولم يغلق الستار فعامل المسرح غاب ليمشي في جنازة جاره المصاب بمرض الكورونا. قالت عواطف وهي تخفي ارتياعها : الدنيا لا تقف لمرض امرأة. هناك ملايين تموت وملايين تولد.
هز رأسه رافضا هذه المقايضة: ” ولماذا أنت بالذات؟”
شاهد وهو يرمق السائرين تحت أشجار الجازورينا في حديقة المستشفى ثعالب قطبية تتخطف السائرين في الممشى. صرخ وهو في مواجهتها: ” الثعالب الماكرة زحفت لتلتهم الزنادقة والأخيار على حد سواء”.
لم تفهم عبارته، رفعت وجه الطفل في الضوء، باست حسنة على خده الأيسر. ودخل جنة أشجارها قانية الخضرة. جلس أمام حور عين بمآزر من كتان، حور في رقة صوفيا لورين.
قالت له: الحياة عجلة عملاقة لن تتوقف. وجاء له جده الحاج توفيق بعجلة ضخمة جدا تكاد تصل للسماء البعيدة. وضعها بين يديه. جعله يديرها نحو الغروب. ناحت حمامة وأطبق الظلام على المكان. فتح عينيه على المقاعد متباعدة، والكل يضع ” الكمامات ” على أنفه وفمه. مسح شعر رأسه، وعاد ليفتح عينيه فيجد أمامه الجرسون يأتي بفنجان قهوة سادة دون أن يطلبها !
تعجب الجالسون في المقهى، قال كل منهم في سره: من يحاسب على المشاريب؟! لحظة مفصلية في مسيرة الزمن، عشر عيون مسهدة، وباب موارب، ونجوم تلمع في الأفق البعيد ثم تنطفي بلا سبب ؟!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
اللوحه للفنان سيف وانلي.

لا يتوفر وصف للصورة.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى