تقارير وتغطيات

الحياة أنثى والموت أنثى في قصة الأسئلة لحسين السنونة

قراءة نقديه- زكريا العباد:
يعبر القاص السنونة في قصته ( أسئلة بيضاء مجنونة) بطريقة متميزة عن حالة الذهول الإنساني أمام أسئلة الوجود الكبرى وأهمها سؤال الموت المفزع، حيث نلتقي – منذ بداية القصة – بأسئلته البيضاء المتمثلة في دهشة البطل لا بل ذعره من الحدث الفاتح والمفتاح لشبكة بنية النص حيث تأتي زوجة لزوجها بهدية ليست كالهدايا، إذ تعبر الهدايا عادة عن الاحتفاء بالحياة، فيما تشير هدية الزوجة، وهي الكفن الموشى بالكتابات الدينية إلى الموت، ما يدعو البطل إلى أن يطلق مجموعة من الأوصاف التي تحوم حول الزوجة وهديتها، مثل قوله: سؤال شؤم، يوم شؤم، شخص شؤم. وهذه الأوصاف هي ردة الفعل الأولية تجاه الزوجة وفعلها فيما يتضمن النص رد فعل أعمق تظهر من خلال لا وعي السارد، وسأشير إليه لاحقا.
هكذا يقحمنا القاص في قلب الحدث في ذات اللحظة التي يضعنا فيها مباشرة أمام ذروة التوتر في القصة، فلا مقدمات ولا تمهيد، إذ تبدأ القصة بالحدث/ القنبلة، حيث يضعنا القاص منذ البداية فيما يشبه لحظة انفجار بركان، تلك اللحظة التي تنتشر تداعياتها وشظاياها على مساحة القصة المتبقية تماما كما تتناثر شظايا مشاعر وأفكار البطل في أجزاء القصة التالية.
وإذا ما ألقينا بنظرة فاحصة على حركة الزمن في القصة فسنجد أنه لا يمضي للأمام بعد لحظة التفجير هذه متجها نحو المستقبل ولكنه ينطلق من الحاضر ليعود إلى الماضي ليرسم مشهدا بانوراميا للذكريات الجميلة في حياة البطل و أيضا للمنعطفات والتغيرات التي مر بها فتغير من خلالها وتغيرت أفكاره، لكن كاميرا الرصد تبدو لوهلة وكأنها قد أصيبت بالجنون بعد لحظة التفجير فغدت تدور في جميع الاتجاهات الزمنية دون هدى، فتارة تعود إلى البداية وذكريات الطفولة السعيدة مع الأم والأب وفرحتهما بدخول طفلهما إلى المدرسة، وتارة يتحرك الزمن باتجاه الحاضر ثم المستقبل المجهول وبالتحديد عند لحظة الموت ذاتها ليتساءل عن الطريقة التي سيموت بها هل هي بطلقة رصاصة أو بالاختناق أو غير ذلك، يتساءل كيف ستمضي اللحظات والدقائق الأولى بعد لحظة الموت؛ ماذا سيشاهد وكيف سيشعر؟! وفجأة يعود للماضي ليتذكر مقولة لأحد أصدقائه يصف فيها الموت، وهذه التنقلات الزمنية مناسبة إلى حد ما لاضطراب البطل فيما بعد الصدمة. وفي الأثناء يتوقف متأملًا ومتسائلا عن سر اللون الأبيض وفلسفته ورمزيته.
وحيث يعد العنوان عتبة وبوابة الدخول للنص فلم يكتفي القاص بوصف الأسئلة بأنها ” بيضاء ” في كناية عن الذهول والدهشة ولكنّه أضاف لها وصف “الجنون” ليغامر بإطالة العنوان تماما كما طالت القصة! ربما لأن الأسئلة الوجودية الكبرى إذا تم تناولها من خلال العقل والتأمل الفلسفي، فإذا ما وقع العقل في الحيرة وقيدته الدهشة من طلاسم وأسرار الوجود وغايته وعقد لسانه الذهول وأصبح خالي الوفاض من أي إجابة كان من المناسب وصف العقل المصاب بهذه التساؤلات بالصفحة “البيضاء” من أي إجابة، وصحّ أيضا أن نصف هذه التساؤلات المولدة للدهشة/ البياض بأنها ” بيضاء”، و نحن نلمس سمة العفوية البيضاء التي تشبه في بعض مقاطع القصة تساؤلات طفل بريء يحاول فهم ظاهرة الموت، ولكن ثمة ثنائية في رمزية البياض فهو في اللحظة ذاتها رمز للشؤم والموت وانقضاء الحياة وملذاتها.
ومن جانب آخر، نجد أن ما يبرر وصف التساؤلات بالمجنونة هو الشق النفسي والعاطفي الذي يكتنزه الحدث حيث أن الذي يزجّ بالبطل في أتون هذه التساؤلات هو المرأة ذاتها التي ينبغي أن تكون حضن الدفء والسكينة فإذا بها تفتح على البطل جحيم التساؤلات الموجعة، وهذا ما يجعل هذا العصف من التساؤل غير مقتصر على الجانب العقلي والمنطقي فحسب، بل على الجانب النفسي والعاطفي ويبرر أكثر وصف الأسئلة المنبثقة عن حدث فجرته هذه الأنثى بأنها أسئلة “مجنونة” منبثقة عن فورة وهياج عاطفيين.
وهنا أيضا نتوقف لدى مسألة هي غاية في الأهمية نختم بها هذه الإطلالة وهي مسألة المسكوت عنه في النص حيث تجوب ذكريات البطل في الكثير من المناطق التأملية وذكريات الماضي العديدة ويسهب في ذكر التفاصيل غير الضرورية إلا أنّ الزوجة تغيب تماما عن كل هذه المساحات الواسعة من النص، وهذا السكوت عن تذكرها في كل ما هو حميمي ودافئ ومهم في حياة البطل هو بمثابة ردّ فعل إقصائي غير واع وجهه البطل باتجاه هذه الزوجة التي تهدي زوجها الراقد على سريره الأبيض كفنا بدلا من أن تهديه باقة ورود، ما يتركه في نهاية القصة منكسرا ومستسلما لمصيره. وهذا ما أشرت إليه في عنوان قراءتي هذه بقولي أن الحياة أنثى من خلال شريط ذكريات دافئة مليء بالأنثى، هذا في كفة، وفي الكفة الأخرى من الميزان ثمة أنثى أخرى تم قتلها وإخفاؤها من جسد النص لأنها فجرت فكرة الموت فيه، وهذا توازن لافت. —
‏.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى