مزرعة الحيوان!
بقلم – دكتور زينب الخضيرى
يُقال : “بليد كالحمار, جاهل كالحمار, عنيد كالحمار”, يجب أن يُقال :”ذكي كالحمار, عالم كالحمار, متواضع كالحمار”، من مذكرات الحمار كديشون.
أحياناً تأتي بعض الأشياء بسرعة البرق ولا تعطينا الفرصة لا للانتظار ولا للتساؤل , فنأخذ بماجاء ونضعه من ضمن المسلمات التي قلما نفكر بها , لأنها تأتي أحيانا بمجرد أن نستدعيها فتأتي طواعية سلسة منقادة ,و طبيعة بعض البشر تميل إلى الركون و إلى راحة الشعور بالأمان فلا يطيقون إزعاج أنفسهم بالبحث عن الحقيقة ويوهمون أنفسهم بأن الحقيقة هي فقط مايعرفون أو مايعرفه الأشخاص الذين يثقون بهم .
من غرائب الإنسان أن علاقته مع عالم الحيوان علاقة خالية من التفكير الجاد بهذا الحيوان , رغم وجود تراث (أدبي/ علمي) غنيان جديران بالتأمل وبإعادة النظر .
فعلى سبيل المثال حكايات “بنجاتنترا” القادمة من بلاد الهند البعيدة للفيلسوف الهندي “بيديا” والتي نقلها إلينا عبدالله بن المفقع من الفارسية باسم “كليلة ودمنة ” جاءت بشكل مغاير لما تعودنا عليه , فهي تحمل حكماً متنوعة وأخلاقيات جميلة , حيث تأتي القصص إرشاديه توجيهية على لسان كائنات عجماء غير ناطقة , فالقصص تدور في الطبيعة في الغابة على ألسنة الحيوان والطير ، لتقديم حكم وقيم أخلاقية , كذلك حكايات “إيسوب” المشابهة لها التي تفيض منها الحكمة , وأساطير “لافونتين” والكثير غيرهم ممن وظفوا الحيوان والطير توظيفاً رمزياً مدهشا , وحمّلوا تلك السرديات الخيالية إسقاطات واقعية في حياة الإنسان .
و رواية ” مزرعة الحيوان ” لـلروائى الإنجليزى الشهير ” جورج أورويل ” التي كتبها عام 1945 كانت ومازالت قطعة مميزة ورائعة من روائع الأدب العالمى التي تعبر عبر إسقاطاتها عن الواقع المرير
و استطاع أورويل أن يجمع فيها بين الصياغة السلسة والمتقنة وقوة الموضوع والفكرة , إذ أراد أن يعبر عن رفضه للقهر والاستبداد والجبروت في شتى صوره فجنح لكتابة الرواية الخيالية ليمرر من خلالها الكثير من الانفعالات والمشاعر التي قد تتملك الإنسان في عالم غير عادل بالمرة .
كانت الحيوانات هي أبطال قصته بعد أن طردت تلك الحيوانات مالك المزرعة واستأثرت بها لنفسها , وأصبحت هي المالك والمتصرف بالمزرعة , وكان التساؤل : إذا سلكت الحيوانات مسلك الإنسان هل ستنتقل لها عدوى الأنانية الطمع والحسد والقسوة والجبروت … إلخ ؛ عندما تمسك بزمام الأمور وتصبح ذات سلطة وسيادة ؟!
ولعل كتاب “مذكرات حمار ” تأليف الكاتبة الفرنسية “الكونتيسة دي سيجور” من أطرف ماكتب في هذا الباب ، حيث تحكي قصة الحمار “كديشون” الذي يعيش في بيت منسي قلما يدخله نور شمس مع سيدة قاسية جداً دفعته للهرب منها, وتبدأ القصة بكتابة الإهداء الى هنري الصغير الذي كان يحتقر الحمير , حيث كتب الحمار كديشون له هذه القصص ليشرح له حجم أذية البشر للحمير , كذلك ذكاء الحمير ومواهبها وطيبتها ، واستخدمها لغة الدهاء والحيلة في التعامل مع الإنسان .
اعتمدت الكاتبة ” دي سيجور ” الكلمات والجمل التي عبرت عن مشاعر ولغة ومواقف الحمار كصورة واقعية لمدى إهمالنا الجانب النفسي في التعامل مع الحيوانات , كذلك عبرت عن لغة التواصل المعدومة معها ، والتواصل يقصد به الإحساس بالموقف والتعامل الجيد, تمتلئ المذكرات بالحكمة والمواقف الذكية , والصور الحيوية الغنية بالعبر, وصور المعاناة العميقة لإثبات الكفاءة والمقدرة .
وعبرت عن وهم فكرة سائدة بأن الإحساس والوعي لا يجتمعان عند الحيوان , ووضحت أن الحيوان يلجأ أحيانا إلى بعض طرق الإنسان المخاتلة المراوغة لرفض الواقع بكل مافيه من عنف وقسوة وسيطرة ومحاولة التحلل منه .