إبداعاتالأخبار الثقافية

قراءة في .. رواية “سعودي مونتانا” لـ إبراهيم الربيعة

انتزاع حضانة الأبناء بعد ثلاثين عاما من الضياع

بقلم – محمد الفوز:
لم يكن ذلك الشتاءُ عادياً لدى رجلٍ صحراوي تشده ضراوة الشمس أكثر من أيقونة المطر التي تقرأ تعاويذ البرد على صدره مثل ابتهالات الكهان حيثُ ساقه القدر ليتعرف على (جنيفر) تلك السيدة الأمريكية التي قلبتْ موازينه رأساً على عقب و نذر حياته كلها بحثا عن إقناعها و إرضائها و استمالتها و الانتصار عليها أيضاً ، كل هذا الضجيج الروحي دفع إبراهيم أن يسرد قصته الواقعية بأحداثها و شخوصها و كأنها حصلت للتو أو من قريب مع أنها استحوذنت على ثلثي عمره مع ذلك إصراره في الوقوف أمام ذاته منتصرا هو المشهد الدرامي الأكثر رسوخا في مسيرته شامخا مرة ومنكسرا مرات عدة لاسيما أنه في بلد امبريالي وقوانينه الصارمة تمنعه من لغة التعاطف أو الاستمالة التي اعتدنا عليها في المجتمع العربي.
الأبرز في رواية (سعودي مونتانا) هو محاولة إبراهيم بكل ما أوتي من دهاء و حيل أن يحوز على حضانة أبنائه من زوجته الأمريكية جنيفر التي لا تقل دهاءً و حيلا عنه و أضيف عليها شيطنتها أو جنونها –إن صح التعبير- ففي كل مراحل الرواية هنالك بطل رابح و بطل خاسر باعتبار أن دور البطل هو محور العمل الأدبي و ليس باعتبارات الهزيمة و الانتصار و لو اقتربنا من هذا المفهوم لخسر البطلان و رجحت كفة الأبناء كونهم الضحايا الأقوى مع كل أسف .
لم يبرز صوت الضحايا/الأبناء في الرواية و إنما كانوا أدوات لصراع الأم و الأب كذلك الأمكنة كانتْ مياديين لمبارزتهما و قتالهما، وحين نبحث عن الصدى نجد “شواظا من نار” و ليس أصواتا ، حيثُ تئن هذه الأرواح المكلومة على حافة الانهيارات النفسية التي عانى منها الأبناء طوال تاريخ الصراع الذي سيطول كثيراً.
هل نعتبر صراع إبراهيم و جنيفر صراع الشرق و الغرب؟ هل هو لعبة امبريالية وقودها الأبناء الذين لم يتسلحوا بما فيه الكفاية للدفاع عن مشاعرهم أو لقول كلمة حق دون تدخل الأبوين؟
هل كانت جنيفر كذبة؟ كما يقول النقاد الغرب عن أمريكا أنها كذبة ، و أن مصاهرة الشرق و الغرب مجرد استمالة وجدانية لسرقة مدخرات الشعوب العربية بطريقة رومانسية و دون الشعور بألم؟ تماماً مثلا متلازمة ستوكهولم التي تتماس مع المثل العربي : “يقتل القتيل و يمشي في جنازته” بهذا المعنى أو قريباً منه كان إبراهيم مذبوحا و يرقصُ من شدَّة الألم رغم النهاية المفرحة التي انتظرها ثلاثين عاماً إلا أنها كانتْ نقطة في آخر السطر تلتها رحلة عذاب نفسي و فكري و كان الأسئلة المُرّة لا تُحلّى بمواقف الحياة الجميلة و لا بأرق الأبناء في سهرهم مع والدهم حيث يطول حديث الذكريات ؛ و عن أي ذكريات تتحدث يا إبراهيم؟ عن حالة الفقد؟ أم النكبة التاريخية التي قضتْ على اخضرارك و سدتْ عين الشمس و أنت تراهن على فضاءات أخرى ؟
هذه مشاعر إبراهيم و لن أتحدث عن مشاعر جنيفر مع أنها أم و للأم مشاعر مضاعفة لا يمكن تبريرها أو التنبؤ بها أو الرهان عليها إلا أن جنيفر وضعتْ أبناءها رهاناً لكل مواقفها المأساوية و لكل أسبابها الواهنة و راحت تتخبط يمينا و شمالا على أمل أن يخنع ذلك الكبرياء العربي و يتهاوى أمام دموعها و هي على يقين أنه لا يقوى على الابتعاد عن أبنائه !
اعتمدت الرواية على الحوار ، و كانتْ أقرب للدراما من السرد الروائي الرصين و المحكم بمعنى كان سرد الحديث و الحوار مع الشخوص للتوغل في متاهة الأمكنة و مجادلة الآخر باعتباره طرفاً بصولات إبراهيم أو جنيفر من خلال بحثه الدؤوب عن أبنائه تارة أو عن جنيفر تارة أخرى و في كلتا الحالتين هنالك صهيل مؤبد مع أن الفارس غائب و مستمر في غيابه إلا أن السباق محتدم ، طبعاً … لا يسعني إلا أن أكتب عن الحالة الشعورية و عن المشاهد الكثيرة و المشتعلة ناراً و بركانا في حمم المُعاش اليومي الروائي حيث كانتْ الموسيقى حاضرة في الحانات و المناظر الخلابة في ردهات الفندق و الحدائق المجاورة إلا أن المنزل كان جحيماً مع أن ذلك العربي الذي يبذل الغالي و النفس لإرضاء الشابة الأمريكية مجرد تنهيدة صدر على طاولة الأيام.
الفشل هو زوادة نجاح في حياتنا لكن الفشل في بناء أسرة هو مثل الصمغ الشديد الذي يترسخ في أعماقك و لا يمكنك الخلاص منه مع وجود الأبناء و هو القوة الرادعة التي جعلت إبراهيم يتخفف أحيانا من عقابه المشين لجنيفر حتى لا تؤذي أبناءه و هذا ألم آخر أن تكون قادراً على مهاجمة خصمك و طرحه أرضاً إلا أن علاقتك به وثيقة ؛ فمن السذاجة أن تضرب حارسك الشخصي لأنه أمين على بقائك و على سرك و على أشيائك و على حياتك ربما و هكذا كانت جنيفر تدير المشهد بكل خبث !
إبراهيم الذي ترك الأحساء مبكراً ، و ترك وظيفته أيضاً التي كانتْ سببا في ابتعاثه لأمريكا ، كما كان يتنقل بين السعودية و أمريكا كمن يتنقل بين حارات القرية غير آبه بالمسافات و لا بالمبالغ التي يصرفها و لا بالزمن الذي يمر كاللحظات بين عينيه و لا بالكوميديا أو التراجيديا التي تتلاشى أمامه كان همه الوحيد أن يكتحل بعيون جنيفر التي انقلبت بسحر فتنتها عليه و كانتْ جيشاً مدججا بالشيطنة و الفذلكة و الشر إلا أن إبراهيم كان لها بالمرصاد .
“من السهل الهروب من الآخرين و لكن من الصعب جدا أ يهرب الإنسان من نفسه” هكذا يقول إبراهيم في ص 178 بينما جنيفر تقول : “دعنا ننس جميع ماحدث ،ولنفكر الآن فيما لديك و فيما سيكون لدي” ص179 هذا المنولوج الذي يجيش في النفس هو نوع من المازوخية و تأنيب الضمير حيثُ تبلغ كرامة و شيم العربي ذروتها رغم كل تاريخه المهزوم إلا أنه يتأسف من جنيفر في المحكمة في ص475 : ” آسف لكل ماحدث،لم يكن أمامي من خيار سوى البحث فرصة أفضل للحصول على حضانة الأطفال، ولو بوسعنا الرجوع بعقارب الساعة إلى الوراء لنعدل قرارنا فمن المحتمل أن تسير  الأشياء بشكل أفضل” .
يقول غاستون باشلار : “ليست هناك حقائق أولى، بل أخطاء أولى” فليس أسوأ من موقف جنيفر سوى اعتذار إبراهيم ، و لكن الرحمة مثل الضوء تخترق النفس البشرية و تجعلها تسبح في فلك مجهول من القيم الرفيعة و المثل السامية التي يكتسبها العربي من قبيلته أو من إيقاع الحياة العامة ناهيك عن الأخلاق الإسلامية التي تعكس السماحة و الشرف و العفو عند المقدرة .
أكثر دمعة كنتُ أراها تسيل ريانة أمامي و أنا أقرأ هي دموع الصغار الذي شهدوا المعركة و كانوا سببها إلا أن سلاحهم الصمت و منطقهم اللهفة و إدراكهم محض عبث حيث لا يمكن أن يكونوا مع الأب فقط و لا يمكن أن يستغنوا عن الأم لكنها الأقدار تهب كالعاصفة و تحمل العبق على أكتافها .
الرواية مثيرة جدا بأحداثها و بشخوصها و بأماكنها مع أن بعض المناطق من الرواية تستحق أن تكون ذات عمق و مساحة أكبر مثل علاقة إبراهيم مع والدته و علاقة والدته مع جنيفر كذلك حول حديث الغربة والحنين إلى أمريكا الذي شعرته للوهلة الأولى جنيفر عندما جاءت الأحساء و سكنت في الخبر و كذلك في البحرين حيث الحياة العربية لم تجذبها لاختلاف الثقافة و ربما لصراع التاريخ الذي يبدو أن جنيفر تهضمه من خلال علاقاتها و سرعة الوصول إلى المسؤولين إذ أنها امرأة شرسة تعرف حقوقها جيداً و الأهم تعرف كيف تنتزعها .
أحداث رواية “سعودي مونتانا” جدلية و مؤرقة منذ كان إبراهيم مبتعثا إلى أن خرج منها مُطلِّقاً ، و كأن أنتهى علاقة الشرق و الغرب ، أعتقد جازما أن تحويلها إلى فيلم سينمائي سيحقق قفزة في المشاهد إضافة إلى البعد القانوني و الأخلاقي و الإنساني في الرواية يجعلها من العيار الثقيل مع أنها “قصة واقعية” و أعتبرها سيرة ذاتية بسرد روائي إلا أن المتعة الفنية لا تُقصيك عن الوجع الإنساني و الجدل الأخلاقي بين الموروث الديني و الاجتماعي الذي تربى عليه إبراهيم و انصهر في شخصيته جعله أكثر تأزما في علاقته مع جنيفر ذات الدين الآخر و الفكر الآخر و السلوك الآخر و البُعد الآخر … ألم أقل لكم إنه صراع الشرق و الغرب تجسد في هذه الرواية ؟!.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى