مقالات

كأس دماء بشرية

الأديب اللبناني محمد اقبال حرب في تونس - NewsTelegraph.net

بقلم:محمد  اقبال حرب–لبنان

في سحيق الزمان حيث تشارك الإنسان والحيوان في مواجهة الطبيعة وتقلباتها في رحلة  صراع البقاء، غير المعلنة. كان كل فرد يبحث عن لقمة تسدُّ جوعه، وزاوية آمنة يأمن فيها منامه. الأنثى والرجل كائنين مختلفين، لا يحفل أحدهما بالآخر إلا في مواسم التزاوج، استجابة لدعوة الهرمونات في مواسم معينة تطلقها برامج الحفاظ على النوع.مرت قرون عدّة قبل أن يكتشف البشر أن الأطفال ليسوا هبة الأنثى بل نتيجة العلاقة التي لم تكن قد أفرزت ثمار الحميمية بعد.

ومع مرور الوقت اكتسبت الأنثى صفة “واهبة الحياة” لكيانات صغيرة تنمو بشرًا. وهذا ما جعل الرجل يعجب منهن، يقترب بريبة من صنّاع الحياة، كأنما يقترب من إله. فغدت الأنثى طريدة مقدسة ملفوفة بهالة من غرائب الجمال ولياقة الحركة عوضًا عن منحها حطب الاستمرارية في آتون البقاء.

بعد ذلك بدأ الإنسان يسيطر على غرائزه بعدما استطاع أن يسيطر على قواه بمساعدة بعض الوسائل التي اخترعها، فأعطته مزيدًا من الوقت ليرتاح بعدما قلّ عناء البحث عن غذاء. وبعدما سخّر النار لحمايته فأصبح ينام وقتًا أطول دون قلق. وبدأ يستفز عقلًا لم يُستعمل منذ بدء الخليقة إلا للبقاء حيًا. هذا الحال قرّب الكائنين اللذين كانا لفترة طويلة، صياد وطريدة. أثمر هذا التقارب إلى اكتشاف سر العطايا الأنثوية وثمارها وبنية الرجل التي تضفي الأمن والأمان. لا أحد يعرف من كان مكتشف دفء اللقاء الذي أدى إلى بنيان ثقة بين رجل وامرأة اتفقا دون شهود وكاتب عدل على الوفاء والإخلاص.وهكذا بُنيت أول أسرة تتخذ من المرأة ربة منزل ومن الرجل صيادًا وحاميًا. عدوى الأسرة انتشرت بين البشر فباتت الأسر متقاربة تجتمع في حيز واحد تتخذه النسوة ملاذًا من الدخلاء ريثما يعود الرجال بصيد يُشبع أفواهًا تتربص بها عيون تتخذ الغابة ستارًا. وهكذا كانت أول قرية على ضفاف شاردة في بقعة من الهلال الخصيب.

وصل رجل ضخم مع زوجه إلى تلك القرية وأبديا الرغبة في الالتحاق بالقطيع. لكن رجال القرية واجهوه بالرفض والهراوات كونهم لم يرونه فيما مضى. لكن الرجل العجوز كان قويًا جدًا فتغلب عليهم. حسده الرجال على قوته البدنية فقرروا قبوله كخط دفاع قوي. الرجل الضخم كان ذو خبرة في الحياة وعاصر بضعة عقود في زمن كان معدل أعمار أهله عقدين من الزمن. أبدى الرجل الضخم قوى غريبة فلم يخف من الرياح، ولم يجزعه هسيس النيران أو لهيبها. لم يكن لدى أهل القرية، بل معظم البشر معرفة كافية لمواجهة الطبيعة وكوارثها. كانوا يخافون الكوارث التي تبعثر حياتهم وتفقدهم محبيهم. أدركوا بأن هناك قوة عظيمة تصنع الكوارث لسبب ما أسموه غضبًا. عانت القرية، كما البشر المشرذمين من صانع الكوارث الذي يحل غضبه بين الفينة والأخرى مدمرًا ما هو موجود إلى ركام فوق أجداث كانت عمادًا للقرية الأولى على هذا الكوكب. استغل الرجل الضخم معرفته وذكاءه في فرض سيطرته بعد كل كارثة ينجيهم منها أو يقلل من خسائرها قدر الإمكان. وعندما يُسأل عن معرفته وقوته كان يشير إلى الأعلى قائلًا: إنه هو يهديني من علياء. أنا صلته بكم لأحافظ عليكم.

مر الزمن وبدأ نجم أحد الفتيان يبزغ لما يحمله من فكر نيِّر مما أخذ يشد البساط من تحت أقدام الرجل الضخم الذي خارت قواه البدنية مع صعود نجمه الروحاني الذي مكنه من الاستيلاء على كثير من الثروات المتمثلة بقرون الثيران والغزلان، وبعض أدوات الصيد المصنعة من أيد مهرة في ذاك الزمن. كما أباح لنفسه نساء القرية جميعًا تحت جناح صلته الإلهة. لم يعرف الرجل الضخم ما يفعل للتخلص من هذا المنافس الشاب الذكي. لمعت فكرة في رأسه تتمثل في بناء بيت شكر لمن في السماء يستغله كما يشاء للسيطرة على الشاب والقضاء عليه بطريقة لا تثير عليه أحقاد أتباعه. عرض الفكرة على الشاب وأغراه بأن هذا المعبد سيصبع معبدًا براعيته بعدما يرحل.

تم البناء وتم استنباط الطقوس التي يتوجب على الأفراد اتباعها لدخول هذا المكان المقدس الذي لم يتم إلا بدعوة من ساكن السماء صاحب القوى الغريبة، كما قال الكاهن الضخم ومريده الشاب. تم اختيار يوم صيفي مميز لإتمام مناسك المعبد وتتويج أول كاهن في تاريخ البشرية الذي اتخذ اسم كاهن بعل. وبينما هم يتجمعون اتشحت السماء بثوب داكن، ريثما ازداد دكانة نتيجة اقتراب كسوف الشمس. خاف سكان القرية، وخاف الشاب وهرع إلى كاهنه متسائلًا. الكاهن المخضرم مرّ بهذه التجربة مرارًا قبل ولادة أي من أهل القرية. هزّ الكاهن رأسه بصمت مطبق، بينما ترصد نظراته انزلاق ستارة الظلام على مسرح الكون. وفي لحظة درسها بدقة صرخ بأعلى صوته: اجمعوا سكان القرية، رجالًا وأطفالًا ونساء. فالإله بعل غاضبٌ جدًا.

اجتمع أهل القرية بسرعة غريبة استجابة لكاهن بعل الذي أشاع بأن بعل غاضب جدًا من هذه القرية، فيما القمر يستحوذ على قرص الشمس حتى أصبح النهار أسودًا مرعبًا. يصرخ الكاهن بصوت جهوريمرارًا وتكرارًا: اسجدوا حتى لا تُسقط عليكم السماء نيرانًا تحرقكم.

يصرخ ثانية: صاحب السماء غاضب جدًا… اسجدوا ودعوني أفاوض بعل ليرأف بي وبكم.

يصرخ في حديثه مع سيد السماء: إلا هذا.

يعاود الحديث: خذ غيره. خذني أنا.أعرف بأنك تعشق الدماء وتنعم بدماء البشر. لكن لماذا لا تختار غيره؟

وعندما شعر الكاهن بأن النور سيعود قال بصوت متهدج ودموع لا تنتهي: لبيك، لبيك لا تدمر القرية، لا تحرقها سنذبحه قربانًا لك فأنت لا تحب إلا أزكى الدماء.

صرخ بقومه: الرب يطلب قربانًا، يريد أن نذبح أفضل رجل في القرية ليرضى.

خاف الجميع، وتمسك كل برقبته يتحسس حرارة وجودها.

فجأة صرخ بصوت مدوي: بعل يريدكم أن تذبحوا مساعدي. اذبحوه الآن قبل أن يدمر القرية.
أشار بيده إلى الشاب وقال: لا تنتظروا، الرب لا يريد سواه، لأن روحه أزكى الأرواح.

هجم الرعاع على الشاب الذي ضاعت كلماته بين صراخ وعويل أهل القرية المؤمنين برب الكاهن وانهالوا على الشاب ضربًا حتى سقط، فذبحوه. ما أن قتل الشاب وسرى نجيعه على الأرض حتى صرخ الكاهن: اسجدوا معي وابتهلوا للإله بعل. سجد الكاهن على مذبح المعبد وهو يخاطب الرب: ها هي دماء قربانك اشربها، اشربها إلهي بعل. إذا ما رضيت أعد لنا الشمس حتى تنير قريتنا.

شعر الناس بدفء الشمس وأفرحهم نورها يتسلل إلى حيث يسجدون. وما أن انتهى الكسوف حتى نهض الكاهن مهنئًا شعبه بقبول بعل لهذا القربان.وبدأ عهد جديد من حياة البشرية.

حياةتتخذ دماء البشر قربانًا ليرضى بعل بأرواحٍ يختارها الكاهن من كل من تسوِّل له نفسه بالتفكير بما لا يتناسب مع رؤيا الكاهن الأعظم. توارثت الأجيال حتى يومنا هذا فكرة الإله الذي يعشق الدماء. الإله الذي لا ينام قبل أن يرتشف كأس دماء بشرية تطفئ نار كراهية الكهّان.

 

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى