إبداعات

وجه العنكبوت

قصة- خالد العجماوي:

تغيرت حياتي كثيرا بعد أن عرفت الشيخ هلال. أستطيع أن أقول إنها قد بدأت. انتشلني شيخي من ظلمات الجهل المدقع الذي كنت أرتع فيه قبل أن أراه. من مجرد صبي في قهوة إلى مؤذن في مسجد. لقد صنعني من جديد. أزال بيده المهتزة ذلك الوسخ الذي طالني من رأسي لقدمي، حين غسلني بصوته وهو يقرأ البقرة كل ليلة، وحين فرك عني أدران المعصية بأن حبسني في مسجده. وجعلني أنظف بيدي كل ركن فيه. كنت كمن ينظف أركان نفسه من وساوسها ودرن ذنوبها المنتنة. أحسست أخيرا أنني نظيف نوعا. أقلعت عن الحشيش، وتوقفت عن شرب الدخان. لما عرف الشيخ كافأني وأمرني أن أؤذن لصلاة العصر. استمعت إلى الأذان بصوتي لأول مرة في الميكروفون. شعرت أنني ولدت توا! نظرت إلى المصلين خلفي فانتابتني نشوة غامرة. شعرت كأنني فوق سحابة بيضاء.
لم يتبق لدي من زمن الوسخ إلا ذلك الصداع الذي ينتابني كل فترة. سألت الشيخ أن يرقيني بيده ففعل. كما أعطاني حبة أبلعها من عنده. لم يختف الصداع، ولكنه بالفعل خف كثيرا. يده مباركة رغم تلك الهزة التي تعتريها حين يضعها بجانبه. قسمات وجهه جامدة شيئا، ولكني أدرك أن قلبه عامر. انتابني ذلك الألم في رأسي مجددا.سألته أن يرقيني بيده، وأن يعطيني تلك الحبة، ثم ذهبت كي أستلقي في ركن الزاوية الشرقي. رأيتني وكأني أنظف ذلك الركن من الزاوية ممسكا بالمقشة. راعني ذلك العنكبوت الضخم الذي بنى له بيتا هناك. أنا أنظف هذا المكان كل يوم. أنا لا أترك ركنا في المسجد إلا وقمت بتنظيفه بكل أمانة. متى جاء العنكبوت؟ دهسته بيدي، ووضعته في الجاروف، قبل أن أذهب كي ألقيه خارجا وجدته لايزال هناك! صحوت فزعا! كابوس بشع. اقترب الفجر. استعذت بالله من الشيطان. هل تدخل الشياطين المساجد؟

بعد الصلاة سألت الشيخ هلال أن يرقيني مجددا. أنا مرهق. يبدو أن تلك الأيام الماضية أصابتني بالتشويش. العجيب أنني لم أحلم بذلك الضابط ووجهه المتجهم. لم أحلم بالزنزانة ونورها الخافت المتسلل عبر نافذة عالية صغيرة. حتى صرخات الألم التي كنت أسمعها من الزنزانة المجاورة قبيل الفجر لم أحلم بها. يحبني الشيخ هلال لأنني أنكرته حين دلفوا إلى بيتي آخر مرة. حملتني يد غليظة كجرو صغير خارج غرفتي. كان ظلاما دامسا فلم أسمع إلا صرخات أمي تتوسل كي يتركوني. سألوني هناك عن مدى صلتي بالشيخ هلال. قلت الحقيقة، وهي أني لا أعرف مكانه. ولكنها لم تعجبهم. حاولوا أن يمسكوه مثلي قبيل الفجر ولكنه لم يكن في بيته ولا في المسجد. بعد أن تركوني سألته أين كان فقال إن عين الله ساهرة لا تنام. كشفت له ظهري كي أريه أثر سجائرهم، ربت على كتفي بيديه المهزوزتين، ثم تركني ونام.
لم تكن مرة وحيدة. تكررت زيارات العنكبوت لي. في الزاوية هناك. أدهسه بيدي وأكنسه بالمقشة، ولكني سرعان ما أراه. يتحرك بسيقانه المشعرة الثمانية كأنه يسخر مني.
لما أخبرته اربد وجهه. كأنه كان يعرف بوجود العنكبوت.
صدمني الشيخ. كنت أظن أنني ملعون أو أنه غضب علي من الله لذنوب اقترفتها قبلا، ولكن حتى الشيخ! قال إنه يرى ذبابة. يراها في منامه كل يوم تطن حول أذنيه. يراها كبيرة، تقف في تلك الزاوية، ثم يخرج منها عشرات من الذباب! إنها رؤيا ولا شك. أنا عنكبوت، وهو ذبابة. لا بد أنه غضب.
شملنا صمت طويل. استعذنا بالله. ابتلع الشيخ حبة، وابتلعت بدوري. فكرنا سويا. لماذا يا ترى مثل هذا الغضب من الله؟ لا بد أن ثمة ملعونين يدخلون المسجد. فكرت. نعم. بالتأكيد هو سيد الأرعن. كنت أخدّم عليه وقت كنت عاملا في المقهى. كان يشرب ولا أقل من حجرين كل ليلة. لم يحاول أن يتوب. أخبرت الشيخ أني سأتصرف. في العشاء أذنت، ثم استدرت أدور بعيني بين المصلين. هم عشرون أو يزيدون قليلا. كان هناك بصلعته وكرشه. وكان يسعل. أما آن الأوان كي تتوب يا أرعن؟ جلبت لنا لعنة الله بأفعالك. لم يعد يأت. سألني عنه الشيخ. قلت إنني صرفته. ابتسم. ورجونا أن تكون آخر الكوابيس. لم ينصرف العنكبوت. كذلك الذبابة ولدت عشرات الذباب. في كل مرة كنت أرى العنكبوت أكبر. صارت سيقانه أكثر وضوحا. في آخر مرة وجدته وقد قارب حجم القط.
******
– لم يعد أحد غيرنا يا شيخ. صرفتهم كلهم.
سألني بوجه جامد:
– من أين يأتي الذباب إذن؟
– بل من أين يأتي العنكبوت؟
نمت في الزاوية. حضرني العنكبوت مجددا. كان في حجم الكلب الأسود. سيقانه تهتز. نظرت في وجهه. كأنه هو!
دهسته في قوة وقد اعتراني الذهول والذعر. دهسته بكل قوتي مرات عديدة. كانت سيقانه المشعرة تتحرك سريعا في البداية، ثم خمدت أخيرا. حاولت أن أكنسه بالمقشة ولكنه كان مثبتا على الأرض. ويلي. ماذا أقول للشيخ هلال؟ كيف أنظف أثر العنكبوت؟
صحوت فزعا، ركضت نحوه لاهثا مضطربا. وجدته ملقى على الأرض، مضرجا في دمائه، وفوقه المقشة.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى