إبداعات
سرداب احتياطي
بقلم _ سمير الفيل:
حين طاردتني الكلاب ، وصلت إلى منطقة تكاد تخلو من الشجر والعمران والبشر بحثت عن مخرج، لم يكن أمامي إلا أن أدخل تلك الفتحة التي تكاد تختفي في الظلام.
على فمي كمامة زرقاء ، ويداي يلفهما قفازان بنفس اللون، ف” الكورونا ” فيروس يوشك ان يصيب كل من يعيش هذا الزمن . مهما اتخذت من احتياطات فهو قادر على النفاذ منها، وإصابتك في مقتل.
كنت أحمل في يدي مسودة قصصية رفضها أغلب الناشرين لوجود مواضيع حساسة ، منها رجل يعانق امرأة ليست من زوجاته الأربع ، وثعبان يركب ظهر فهد ، وعالم بطربوش يضرب الدفوف . قالوا بنبرات متشابهة : التأويل يخرجك كالشعرة من العجين ، لكنه يضرنا ، ويدفعنا لدخول السجون أو دفع غرامة .. مئات من الدنانير.
لو قلت الدنانير ، فهذا معناه أننا في زمن قديم، أو زمن مجيد ، وأنا أمضي محني الرأس ، مكسور النفس ، تحت إبطي الأوراق ، وفي أطرافها دبابيس صغيرة من الصلب تجمعها .
زامت الكلاب ، فخفت أكثر ، واندفعت في الاتجاه العكسي ، وقلبي مملوء بالفجيعة فالمركب الذي مضيت سنوات في تصنيعه وتجهيزه للسفر قد صادرته السلطات ، بدعوى أنني من المتمردين.
يعلم طبيبي الذي يعالجني من الصرع والتردد والانفصام أنني شخص مسالم ، لا مقدرة عندي لإيذاء بعوضة. ويعلم جاري أنني مؤدب ، و حينما أرى زوجته تنشر الغسيل على الأحبال أغض البصر وانكمش انكماشا مروعا ، ويعلم بائع التفاح إنني أشتري منه دون أن أساومه أو أرجع له الثمرات التالفة .
ويعلم ناظر مدرستي قبل رفتي من سلك التعليم ، أنني كنت جادا في تحية العلم ، والشدو بالنشيد الوطني بكل حماس ، وبلغ الأمر بي أن أرفع يدي محاذاة رأسي كي أقدم التحية للزعيم ـ حين أدخل من باب الفصل ـ أيا كان لونه أو كسمه أو بزته .
أحسست بالوجل حين لدغتني بعوضة فخفت أن تكون ” أنوفليس” من النوع الناقل للملاريا ، فتكفي جائحة” الكورونا” التي خطفت أرواحا ، وحين ماتوا في نهاية الامر ، وضعت جثامينهم في أكفان بيضاء في غاية النصاعة غير أن أهالي قريتين رفضوا الدفن خوفا من انتشار الوباء . تصدت لهم الشرطة بإطلاق القنابل المسيلة للدموع ، فبكى المتجمهرون من احتقان العينين ، وليس موعظة وخشوعا.
أنا أسير بمعدل معقول جدا ، لكنني لا أبصر نهاية السرداب ، وإن كنت أضع ثقتي في تخميناتي التي دائما ما تكون صحيحة.
غمرتني الرغبة في الجلوس لحظات قليلة لتدوين مشروع نص قصصي جديد ، لأنني لو لم أدون ما يلق في رأسي من فكر فمصيره الزوال. أقعيت وكتبت خمسة نقاط أساسية تصلح لتكون عناصر العمل الرئيسية : ( رجل أعمى ـ زوجة مدمنة للجنس ـ شرطي بكتف مائل يطارد الرجل ـ كلب أمين مثل كلاب أصحاب الكهف ـ ناشر ببدلة أنيقة لا يعترف بنظرية النسبية ).
أنهيت تدويني وتابعت السير ، مددت يدي في الكيس ، وكان معلقا على كتفي الأيمن ، أخرجت رغيفا ، وسحبت سمكة من أسماك ” الرنجة ” ، بمطواة شققت البطن ، وانتزعت البطروخ ، وضعته داخل الرغيف الطازج ، وأعدت بقية السمكة للكيس.
سمعت نباح الكلاب ، فقد شمت من بعيد الرائحة فجرت داخل السرداب، في هذه المسافة سيكون تصرفي كالتالي : سأتنازل عن الرغيف والسمكة و البطروخ ، أرمي طعامي ناحيتهم ليتلهوا فيه.
نجحت خطتي فعلا. ومضيت في طريقي ، صرت ارتجف لأنني سمعت صوت الوطاويط وهي تطير في الأعلى ثم ترتطم بوجهي ، ولقد كان علي أن أفكر في سرداب إضافي ينتشلني من هذا المصير المؤلم الذي أكاد أصل إليه.
قالت دعاء ، وهي تحكم وضع الكمامة على فمي وأنفي ، إذا شعرت بأن روحك ستزهق أخلعها ثوانٍ ثم ضعها ريثما تختزن رئتاك بعض الهواء .
داخل السرداب هواء فاسد، ونصيحة دعاء لا تصلح في مثل هذه الأجواء، ثم أنها تعيش على مبعدة 180 كيلومتر مني . تحققت من أنني أسير سيرا منتظما فالكلاب خفت صوتها ، والوطاويط اختفت وجمجمتي صارت تحمل عقلا مرتبا. أنا أيضا مؤمن بقوانين مندل للوراثة، هو أجرى أبحاثه على نباتات البازلاء ، وأنا أجري حساباتي على بني الإنسان, فلماذا تدخلت” كورونا” في وقت حرج لتفسد خططي كلها؟! كم كانت فجيعتي أن الدورة الأولمبية التي توشك على الإقامة باليابان ستؤجل.
ما علاقة تلك الدورة بقصصي وقلمي الذي تيبس منذ شهر نوفمبر من العام الماضي؟ لا شيء سوى أنني كنت أترقب مسابقات العدو ، والحواجز ، والوثب ، والجمباز لأشاهد عبقرية الإنسان في السرع ، والعلو ، والاتزان ؟
كيف له أن يصارع الزمن ويحصل على ميداليات ذهبية وفضية وبرونزية ، ويصعد منصات التتويج ، وقد يممّ وجهه شطر العلم الرسمي لبلاده . هذا يعوضني عن بطئي ، وترددي ، وانكماشي داخل نفسي ، وقول دعاء لي في مرات الخصام : مشكلتك الوحيدة البطء.
ـ ماذ1ا؟
ـ أنت تشبه السلحفاة الكسولة.
ـ لكن يا دعاء السلحفاة لديها درقة؟
ـ وأنت عندك عقل.
ـ بمعنى؟
ـ كن سريعا.
بسبب رغبتي في تحقيق حلمي بأن أكون مشهورا بدلا من جلستي الكسولة على المقهى كل يوم ، سأحقق حلمي في الثراء وامتلاك سيارة لونها أحمر. أنتم بكل تأكيد تعرفون ان الملك فاروق ملك مصر والسودان كانت له سيارة مرسيدس حمراء اللون هي من المركبات الملكية، أهداها إليه هتلر . لقد أصدر قرارا بمنع طلاء أي سيارات بنفس اللون.
لو أن الملك فاروق كان موجودا ربما بسبب هيبته ووسامته وخطواته الوئيدة الواثقة لكان بإمكانه أن يجبر” كورونا” على التراجع .
لا يضحك مني أحد عندما يقرأ هذا الكلام ، فأنا لا أكتب إلا ما أنا واثق في صحته، فالرجل كان طيبا ، مباركا، ومن سلالة نبيلة حتى أن شيوخا أقنعوه أن يكون خليفة المسلمين، وان يتوج في ” القلعة ” ولسبب ما فشلت الخطة ، وقبله فشل والده فؤاد الأول في خطوة مماثلة .
في بيتي الذي هو بيت فقير من ثلاث غرف وصالة ومطبخ، وقفت بمفردي لأقلي بيضة بالسمن البلدي ، حين أوشكت على الانتهاء ، تذكرت أن البيت لا يوجد به رغيف واحد. ارتديت ملابسي ونزلت لأقف في الطابور ، أقدم البطاقة الممغنطة للفتاة فتضعها في جهاز بحجم كفين ، وتعطيني ورقة تحمل بياناتي.
قضيت ساعات طويلة في هذا الصف ، وظفرت بالعيش بثمن رخيص جدا. عندما صعدت وجدت دعاء قد اختفت لكنها تركت ملابسها. هل يعني هذا أنها سترجع؟
مطلقا، فأنا عندي في البيت قفازان ملاكمة ولم ألعب مباراة واحدة ، وعند صديقي ” عبد الظاهر” زوجة لكنه لم يطأها و لم تنجب، وفي مكتبة ” حمدي ” حوالي ألف وخمسمائة كتاب وهو أمي لا يقرأ ، والمكتبة مجرد زينة يتباهى بها أمام الزوار.
أسرع قليلا في سيري بالسرداب ، أقول لدعاء ، وهي تخفي عني إصابتها بفيروس الكورونا : لماذا وجهك شاحب؟
ـ ربما من الإجهاد.
ـ اعطني تفاحة.
ـ خذ.
ـ هات سكينة.
ـ مد يدك ، أنا مشغولة بغسل أقمطة الطفل.
لكن الطفل مات يا دعاء منذ شهرين ، وأنت تخفين عن نفسك هذه الحقيقة ، وتتمادين في تخيلاتك ؟!
لا يمكنني أن ألوم حكومتنا الموقرة ، فهي رغم كل أعبائها ، أعطت كل واحد من سكان الولاية أو المملكة أو الإمارة ـ رأسي ليس دفتراـ كمامة واحدة وقفازين مطاطين. ولكونها حكومة رشيدة فقد كانا باللون الأزرق.
قلت لمندوب الهيئة أنني غير متفائل بهذا اللون. فالمرضي يهمهم أن يكون اللون أبيض. بهت الرجل وتلجلج في الكلام.
ـ ألم تقرأ ديوان” أوراق الغرفة 8″؟
ـ أفندم؟
ـ ديوان شعري.
ـ لمن؟
ـ أمل دنقل؟
ـ لم يكن مقررا علينا . كل ما نعرفه هو أحمد شوقي ، والبارودي ، والبحتري ، وأبو فراس الحمداني.
من جديد ارتطم وطواط برأسي ، لاحظت أنه وقع على الأرض . سحقته بحذائي ، ومضيت .
قالت : انج بنفسك؟!
ـ ليتني انجح.
ـ خذ نفسا عميقا. واقسم التفاحة فيما بيننا.
شققتها طوليا ، وجدت داخلها كتلة من السواد فرميت بها من النافذة المطلة على المنور .
سألتها : من أين اشتريت تفاحك؟
ـ من بائع بالسوق.
ـ ما ملامحه؟
ـ له شارب كبير ، وجرح في صدغه الأيمن.
ـ عرفته.
لم أكن لأخبرها أنه نفس السجان الذي تولى حبسنا في مظاهرات الطلبة ، 1968اعتراضا على المحاكمة الهزلية لقادة سلاح الطيران في هزيمة 1967 .
ياربنا ، من ينقذنا من تلك السراديب التي أحنت جذوعنا، وبعثت القلق في أنفسنا . هل هو عصر الأوبئة ، وجاء الأخير الشرير لينتقم من البشر؟
صاح غراب : غاق .. غاق..
انتبهت إلى أنني نسيت اليوم ابتلاع فصين من الثوم لقتل الدود الذي ينهش جدر الأمعاء في بطني. قلت لدعاء قبل أن يصيبها المرض: حاولت أن أحبك لكن ستارة سوداء ظلت بيننا.
التفتت نحوي وطاقم الممرضين يسحبونها لعربة الإسعاف :حاول من جديد.
ـ بيننا مسافة 180 كيلومترا.
ـ لو امتلكت السرعة لنجحت .
ـ هل تعودين وقد شفيت؟
ـ نعم.
قلت في نفسي: لابد أن أبحث عن سرداب جديد. أنا اخترت السرداب الخطأ. خرجت من العتمة ، أصبحت فوق الأرض. لا أدري أهي فتحة أخرى غير التي دخلت منها أم هي نفسها؟
سمعت النباح من جديد. وجدت سيارة إسعاف أخرى على جانبها شعار الهلال الأحمر تنتظرني، وبالقرب منها بائع التفاح يشير نحوي.
ـ هذا الرجل مصاب بالفيروس.
شدوني بعزم قوتهم. وقد منعوني من الكلام. جعلوني أصعد العربة المجهزة بكل شيء يقتل الميكروبات والجراثيم. لكنه فيروس مراوغ.
قال لي الطبيب بوجه بشوش : لا تخش شيئا. هي فترة عزل مؤقته ،، وسوف تخرج بسلام.
رددت عليه وأنا ممسك بأوراقي ، وأعيد وضعها بعناية تحت إبطي.
ـ سوف أصعد ، ولكن اتركوا أوراقي معي .