الجاسوسة
بقلم – دكتور صالح الشحري:
“الجاسوسة” احدى روايات “باولو كيلو” الروائي البرازيلي الحائز على جائزة نوبل، والذي يبدو لي معروفا في العالم العربي، وخاصة بروايته الخيميائي، و هي التي جعلته معروفا في أوروبا لما تحمله من عبق رواية ألف ليلة و ليلة، و هو نفس ما بهر الأوروبيين في آثار زميله الكولومبي جابريل جارثيا ماركيز ،البعض مثلي ممن قرأ الخيميائي أشهر أعماله لم يجد فيها شيئا جديدا فهي مستمدة من التراث العربي.
وتعد “الجاسوسة” العمل الثاني الذي أقرأه له، ويتخذ من الإبتزاز الجنسي للنساء مادة له و لكن من زاوية مختلفة قليلا، فالجاسوسة المعروفة و التي أعدمت ظلما بأدلة واهنة دفعت ثمنا باهظا للطريقة التي يتم ابتزاز النساء فيها ، الطريقة التي أصبحت السيناريو الأبرز لحياة كثير من النسآء اللواتي تبدأ حياتهن بجريمة إغتصاب عادة في الأماكن المألوفة لهن كالبيت أو المدرسة، ثم يستسلمن للإبتزاز بشكل ما و يسرن في طريق يجمع الفنون الجسدية المبتذلة مع العهر، يؤهلهن جمالهن وخبراتهن الجنسية مع الوقت لينمن في فراش كبار رجال الدولة.
ثم لمحاولة استغلالهن من قبل أجهزة الإستخبارات، و هكذا يعرض عليها أن تكون عميلة للإستخبارات الألمانية في فرنسا فتقبل و لكنها تبلغ السلطات الفرنسية، و تصبح عديمة القيمة للألمان و لكنها تحاكم في فرنسا، يتخلى عنها الجميع ، حتى الإنسان الوحيد الذي أحبته حبا صادقا و الذي قضت معه الليالي تعالج عينيه اللتين عميتا بغاز الخردل، أحبت هذا الحبيب الذي لم يكن له عينين ليري فيهما جمالها الذي صدع الأكابر، وهو شخصية اخترعها الكاتب ببراعة ليدلل على أن الحب الحقيقي تقارب روحي أكثر مما هو تعلق مادي بالأجساد الآيلة للفناء .
الجاسوسة التي تخلى عنها الجميع بما فيهم الحبيب الحقيقي، و تركوها تسير مظلومة الي ساحة الإعدام لتشغل سيرتها الرأي العام عن خسآئر الحروب و فظآئع الجيوش، الفتاة التي تترك مذكراتها آملة أن تقرأها يوما إبنتها التي حرمت الحياة معها بسبب الزوج السادي الذي احتال للزواج بها و استغل جسدها لا لشهواته فقط وإنما أيضا لتكون جسره للوصول ألي رضا قادته.
الرواية تكرار للسيناريو الشهير الذي تدفع فيه الأنثي ثمنا باهظا للمؤهلات التي أهلت به لممارسة دورها في الحياة، تأهل طبعها الأنثوي بالجاذبية و الرقة و الخصوبة الجسدية و العاطفية لتحولها الظروف التي ما زالت سآئدة رغم التقدم المادي إلى أداة غواية، إنها الظروف التي صممت لتعطي الذكور ما يضاعف لذتهم الحيوانية الدنيوية ويفرغ الحب و العلاقات بين الجنسين من أبعادها الإنسانية القائمة علي التراحم والمودة و التكامل، لتصبح الأنثي في النهاية شيئا من الأشياء التي يتم تداولها في السوق، إنها الرأسمالية، السعر يعلو و يهبط في البورصة حسب ما يمكن أن تقدمه من فنون العهر الذي تحاسب عليه في النهاية وحدها.
وفي النهاية، الجاسوسة فهمت ذلك متأخرا، سارت مستسلمة بغير إهتزاز إلى ساحة الإعدام، كأنما تسير الي السوق أو المدرسة، ففي النهاية ها هي تسير في الطريق الذي رأت أنه الطريق الذي لم يكن لها عنه خيار آخر، إنه البؤس الذي يتناسل بؤسا.