غير مصنف
ألبير كامو… مستوطن اللامعنى في رواية الطاعون
بقلم:عبدالله الحيمر—عن نادي النقد
يأتي العمل الروائي «الطاعون» للأديب ألبير كامو، بالمقارنة مع الأدب المقاوِم للاستعمار خلال تلك الحقبة، من وعي توسعي إمبريالي أوروبي. وهذا ما يؤكده إدوارد سعيد حيث يقول: «إنه من الصّعب فَهْم ألبير كامو أو جيد أو كونراد أو كيبيلنغ، أو حتى ديكنز وأوستين في معزل عن الجغرافيا السياسية للإمبراطورية الفرنسية أو البريطانية». ومن هنا تأتي القراءات المتعددة للفكر الاستيطاني وتجلياته الثقافية والفاشية والدينية. فهل بالإمكان العثور على مغزى الوفاء أخلاقيا وسياسيا، للتجربة الاستيطانية التاريخية للجزائر، في عمل روائي نشأ مساره السردي على جغرافيا ملتبسة؟ وهل الأديب كامو كان آخر شهود على الانهيار التراجيدي للمشروع الاستعماري؟
حقيقة الاستيطان
أجواء رواية «الطاعون» تشبه شبها كبيرا، واقع المستوطنين الفرنسيين في الجزائر المحتلة، لما كان يعيشونه بعد فرارهم إلى الأم فرنسا. ذلك أن وباء الطاعون يبث الهلع والوسواس في نفوس الناس «شبح مدينة وهران تحت الوباء/ انخراط أبطال الرواية في معركة خاسرة» كناية عن بداية انتفاضة جيش التحرير الجزائري في مقاومة المستعمر. ويخلخل النسيج الاجتماعي ويجعل الفرد، ينعزل عن الجماعة ويحصن نفسه خوفا من الإصابة بالوباء «خوف المستوطنين من فكرة استقلال الجزائر». لقد كان ألبير كامو في الرواية يلبس كل قناعات شخصياته في صراعهم مع الطاعون، لأنه عاش مخاض طعون الاستيطان، وسرقة وطن من أهله. لم يستطع التصالح مع هذا الشطر في شخصيته، فرنسا ما وراء البحار. واقع مضطرب وقاتم، كتاريخ كل أبناء المستعمرين الأولين، يصابون بانفصام الشخصية، حتى أنهم كانوا يطلقون اسم «الجرذان على عرب الجزائر». هذا البناء الوهمي والخرافي، إنشاء مقاطعة فرنسية في شمال افريقيا. لقد انهارت أحلام المستوطنين الفرنسيين، وشعروا بالخزي والعار، أمام مقاومة باسلة لجيش التحرير الجزائري، وفشلت كل مقاومتهم في وقف المد التحرري الجزائري. لقد كانت نبرة الكاتب ألبير كامو، الإصلاحية بعد انتفاضة الشعب الجزائري، متعاطفة مع مستوطني الجزائر، لكن بعد اندلاع الثورة التحررية الوطنية، ارتد إلى الدفاع عن شرعية السيادة الفرنسية للجزائر ومطامعها الإمبريالية، وبذلك كان بتعبير إدوارد سعيد «رجلا أخلاقيا في موقف غير أخلاقي».
سيزيف الطاعون
كتب ألبير كامو روايته الشهيرة «الطاعون» عام 1947 في محافظة شامبون سورلينيون. وهو الكاتب والمفكر، ذو الوعي الثقافي اللاتيني المتجذر من الإرث الإغريقي الشرقي، المشبع بثقافة الملاحم. جعله يقتبس فكرة روايته «الطاعون» من الأدب اليوناني القديم، خاصة قصة الملك أوديب، حيث نجد وصف سوفوكليس لمدينة طيبة، التي ابتليت بالموت الأسود. قائلا «المدينة بأكملها مليئة بعبق البخور المشتعل وهدير الأناشيد والرثاء». علما ان مدينة وهران العربية، لم تعرف الطاعون في أواخر أربعينيات القرن الماضي، بل عرفت وباء الكوليرا قبل ذلك التاريخ بمئة عام. لم يستوعب الوعي الثقافي لمدينة وهران العربي/ الإسلامي، كمستوطن عابر بالزمن الضائع. كانت مقاربته دائما متعالية على ثقافة شمال افريقيا، كاليونانيين، الذين نعتوا الشعوب الأخرى بالبرابرة. نظرته المكتنزة بالمدنية الغربية، لم تخرج عن نسق التأويلات العنصرية الفرنسية، اعتبار الجزائر الهامش الغرائبي والمتنفس القديم للتراث الروماني المسيحي/ اليهودي. وترسيخ خطاب الثقافة المتوسطية، لشرعنة الاستعمار وهيمنته السياسية على بلدان شمال افريقيا، وسحق القوميات المحلية لسكانها الأصليين. جعلت الأديب البير كامو يتماهى مع أسطورة سيزيف اليوناني، فأصبح يعاني من ازدواجية فكرية، وانفصام أخلاقي، تجاه البلد الذي أنجبه، حائرا بين الانتماء للجغرافيا، أم للتراث الحضاري للمستعمر. كانت القضية الجزائرية بالنسبة لألبير كامو، كصخرة سيزيف، لم يستطع الاستقرار فيها في مكان. كانت تشبه وباء الطاعون الذي يسكن جثته وتفكيره. فعاش لمفاهيم فلسفية من قبيل الوجودية، والعبث، والتمرد، والاغتراب، والعدمية؛ والبحث عن المعنى الوجودي، والدليل أن كل كتاباته من «الغريب» إلى «الطاعون» و«السقطة» و«أسطورة سيزيف» ثم إلى مجموعته القصصيّة «المنفى والملكوت» رسخت وسمه «بالكاتب الوجودي» في الأوساط الفكرية الفرنسية، لكنه مع الأسف أساء إلى مفهوم الوجودية، بفرضه معناه الخاص على الاستيطان الإحلالي للجزائر، حتى تكون للحياة في هذا العالم قيمة حقيقية. حتى أننا نجده في روايته «الغريب» أو «الطاعون» يجعل الموت العربي بعيدا عن صدمة الوعي الإنساني الغربي. كأن قتل العربي عرضي ومنعدم من أي قيمة إنسانية أو حس أخلاقي. وهو المتبجح بقولته المشهورة: «نحن لا ننشد عالمًا لا يقتل فيه أحد، بل عالمًا لا يبرر فيه القتل». الغريب في الأمر أن مولد الروائي ألبير كامو في الجزائر، ولكن للأسف، لم تحظ هذه البلاد بحيز من سردياته الأدبية. كان دائما عبورها سرابيا كأرض فرنسية يعيش عليها أناس من البدو.
فاستعمل المجاز الذي يقول عنه محمود درويش «ظل اللغة». كرمز للتحكم في سيرورة أبطال رواية» الطاعون» ليعطي صورة حقيقية عن وضع المستعمرة الفرنسية في الجزائر الذاهبة إلى استقلال. ثم إن تدميره لمدينة وهران مجازيا، يعتبر بمثابة هزيمة ذاتية، وغسق لأفقه الفلسفي، وانتماء الى ما وراء عدمية عالم، تسوغه أحداث عرضية وتكتنفه دائرة العبث. فطاعون كامو لا حل له إلا بكي الوعي الاستيطاني. ويصف مدينة وهران في روايته: «كل المذاقات السيئة في الشرق التقت في هذه المدينة». قاصدا تغييب المنحى السوسيولوجي والعنصر العربي المكون للمدينة. لم يستطع التصالح مع هذا الشطر بشخصيته، فرنسا ما وراء البحار. فتولدت عنه تجربة «العبث الوضعي» كمفهوم فلسفي أي التواجد خارج المكان، ومحاولة الاستقصاء عنه من داخل مكان آخر. أي إشكالية المحال في صياغة عالم المعنى بالزمن اللاأخلاقي.
أما الإسقاط الرمزي عن الاحتلال النازي لفرنسا فيبرره كامو قائلا: «الطاعون، الذي أردت أن يقرأ على عدة أبواب، فإن محتواه الواضح هو صراع المقاومة الأوروبية ضد النازية، تم تقديمها على أنها وباء مميت، معد بشكل خطير». علما أن كل سكان وهران ليس كلهم من المستوطنين البيض، بل فيهم سكان أصليون. متناسيا البير كامو أن محاربة الطاعون المحلي، تستوجب التضامن والمواجهة والثورة عليه، كما فعل الجزائريون، بابتداع مصل الكفاح المسلح لتغيير التاريخ ودفع عجلة التحرر من وباء الاستيطان الفرنسي.
كانت بالنسبة له فكرة استقلال الجزائر انتحارا. لقد كره جبهة التحرير الجزائريّة وأسقط عليها كل مفاهيم العنف والتخريب، واعتبر التيار القومي العربي بقيادة عبد الناصر مؤامرة ضد فرنسا، خصوصا بعد صعود حركات تصفية الاستعمار في العالم الثالث.
مستوطن اللامعنى
إن الولاء عنده كان للمشروع الكولونيالي القائم على أن الجزائر قطعة من فرنسا. لقد وصف أدوارد سعيد سنة 1993، الكاتب والمفكر ألبير كامو «الكاتب ذو النزعة الكولونيالية»؛ في كتابه التأسيسي «الثقافة والإمبريالية» (1993) تحت عنوان «ألبير كامو والتجربة الفرنسية الإمبريالية» قائلا: «كامو لعب دورا مهما بصفة خاصة في الانتفاضات المشؤومة التي رافقت الولادة العسيرة والمؤلمة لمرحلة انهيار الاستعمار الفرنسي. إنه وجه إمبريالي جاء متأخرا. وهو لم يعش فقط الفترة التي بلغت فيها الإمبراطورية الاستعمارية ذروتها، بل عاش أيضا الفترة التي أصبح فيها كاتبا كونيّا يمد جذوره في استعمار بات اليوم منسيا». ويرى إدوارد سعيد أن روايتي كامو «الغريب» و«الطاعون» ومجموعته القصصيّة «المنفى والملكوت» تمثّل حجة لاواعية بإقرار كامو بالهدف الإنساني والحضاري للاستعمار. وأن الأثر السياسي والخلفيات الأيديولوجية المشرعنة لاستعمار الجزائر في أعماله، هي بحسب إدوارد سعيد «عنصر في الجغرافيا السياسية الفرنسية عن الجزائر، التي تمّت صياغتها على نحو منهجي استغرق أكثر من جيل، لسرد مكثف أخاذ عن ذلك التصارع السياسي والتأويلي، الذي استهدف تمثيل واستيطان وامتلاك الأرض». إن الكشف عن مواقف البير كامو الأيديولوجية والسياسية، بخصوص الاستعمار الفرنسي للجزائر وثورة التحرير الجزائرية، ثم مطلب الاستقلال الوطني، تعكس فكره الاستيطاني المنغلق والمأزوم، حيث يقول: «فكرة الاستقلال الوطني الجزائري ليست سوى ردة فعل عاطفية. لم تكن هناك أمة جزائرية حتى الآن. واليهود والأتراك واليونانيون والإيطاليون والبربر سوف يحق لهم أيضا أن يزعموا قيادة هذه الأمة الافتراضية. وفي الوضع الراهن، ليس العرب هم وحدهم، الذين يشكلون الجزائر. إن حجم ومقدار الاستيطان الفرنسي، بصفة خاصة، يكفيان لخلق مشكلة لا تقارن بسواها في التاريخ. وفرنسيو الجزائر أبناء بلد أصلاء بدورهم، وبالمعنى الأقوى للكلمة. فضلا عن هذا، فإن جزائر عربية خالصة لا يمكن لها أن تنجز الاستقلال الاقتصادي، الذي من دونه يكون الاستقلال السياسي محض وهم». وفي خطابه بالأكاديمية السويدية أثناء تسلمه لجائزة نوبل، عبّر عن إرهاصات انهيار المشروع الاستيطاني الفرنسي أمام عينيه قائلا: «إن كل جيل يرى أن مهمته، بدون شك هي أن يعيد بناء العالم، وجيلي يعلم رغم هذا أنه لن يعيد هذا البناء، إلا أنَّ مهمته ربما أصعب إنها تقوم على منع انمحاء العالم». كان يعاني من الاغتراب المكاني، والهروب المجاني من مواجهة الأسئلة الكبرى المطروحة على الاستيطان الفرنسي. كان الثوري غير العضوي، المنعدم الموقف في مواجهة أحلام الإمبريالية الغربية. كتب رواية «الطاعون» وهو حائر بين الوطنية والخيانة للوطن المنشأ.
نبوءة الطاعون
لقد كان الأفق الفلسفي التحرري عند البير كامو، بالنسبة لأهالي الجزائر لا يتعدى الانتصار لبعض قيم العدالة الاجتماعية، في إطار الدولة الاستعمارية الفرنسية. كانت بالنسبة له فكرة استقلال الجزائر انتحارا. لقد كره جبهة التحرير الجزائريّة وأسقط عليها كل مفاهيم العنف والتخريب، واعتبر التيار القومي العربي بقيادة عبد الناصر مؤامرة ضد فرنسا، خصوصا بعد صعود حركات تصفية الاستعمار في العالم الثالث. إن الضعف التراجيدي للوعي التقدمي التحرري عند البير كامو، وضعه في وضعية فقدان البوصلة التاريخية. فبعد وفاته بسنتين هرب المستوطنون من الجزائر كالجرذان نحو الأم فرنسا. وأصبحت الذاكرة الجزائرية مجروحة، بهذا العمل الأدبي، الذي سحق آدميتهم. والأديب العالمي ذو النزعة الاستعمارية والعنصرية البغيضة ضد السكان العرب، الذي شكك في ثورة واستقلال الجزائر، الذي أصيب بالأخير، بعمى استشراف المستقبل، فقدم بروايته «الطاعون» إنجيلا لأزمنة الشقاء التي عاشها مستوطنو الجزائر، ونبوءة الزمن المقبل لهم في روايته قائلا: «وإذ نحن هكذا نافذو الصبر من حاضرنا، أعداء لماضينا، محرومون من المستقبل، فإننا كنا نشبه أولئك الذين كانت العدالة أو البغضاء البشريان يجعلانهم يعيشون خلف القضبان الحديدية. وقد كانت الوسيلة الوحيدة للإفلات من هذه العطل، التي لا تحتمل هي أخيراً في تسيير القطارات بالخيال من جديد، وملء الساعات بقرع مردّد لجرس يصر على الصمت».