غير مصنف
جماليات التركيب والصياغة في نص : “عزفك الرباب ” للشاعرة نبيلة حماني !
قراءة نقدية :بقلم الناقد صالح هشام !
وجهة نظر نقدية على هامش قراءة النص——————–
اللغة وعاء يكتسب منه النص الأدبي بمختلف أجناسه ، وجوده ، وهي في الشعر رداء شفاف ، لكنه يخفي بين سطوره محاسن (الحسناء / الصورة / المعنى ) وماهذه اللغة في حقيقة الأمر إلا فضاء فوضوي مشكل من(وحدات / ألفاظ / عناصر لغوية مختلفة ) لم تتشكل بعد،وأثناء انتشارها في هذا الفضاء تظل بكرا خارج التوظيف٠٠
و لن تفتض بكارتها إلا بتدخل من متكلم معين أو كم لا يحصى ولا يعد من المتكلمين ، الذين تختلف قدراتهم على الافتضاض ،باختلاف أذواقهم في جودة الانتقاء، وقدراتهم على الصياغة اللغوية. إذ يختار هذا هذه الوحدة اللغوية ، ويترك تلك ،فهذه تروقه وتلك تشعره بعدم الرضى ،لأنها تنزل ثقيلة على سمعه فيستقبحها .
ويختلف هذا الانتقاء ، تبعا لاختلاف ظروف المتكلم ، المعرفية والثقافية ،إذيملأ سلته وفق انتقاء مرحلي تفرضه طبيعة بناء النص ، وبالتالي يمر هذا المتكلم ، إلى هندسة وبناء كلامه (كلمة/ كلمة ، لفظة/ لفظة ) كطائر السنونو الذي يبني بيته (قشة/ قشة) أو البناء يبني جداره (آجرة/ آجرة) وكل آجرة توضع في المكان الذي يلزمها ، وإلا اختل الإحكام في البناء فينهد الجدار كله . ولعل هذا البناء ،هو الذي يمنحنا القدرة على التمييز ، بين هذا فنتوجه مبدعا ، وذاك فنعتبر كلامه عاديا لا يرقى إلى مراتب الإبداع ،إذ لا يثير في متلقيه رعشة الإعجاب ٠ ووفق ذوقه يستقبح كلام هذا ويستسيغ كلام ذاك٠
وهذا في اعتقادي من أهم أسباب أوجه الاختلاف بين الكلام العادي و الكلام الإبداعي ، بين لغة الإنتاج الأدبي و لغة التواصل المباشرة ،سواء كان الجنس الأدبي شعرا أو نثرا ، وما إلى ذلك من أنواع الكلام ،وحتى التواصلي والعادي منه!
القراء النقدية ————————————————-
من خلال قراءتي لنص ( عزفك الرباب ) للشاعرة نبيلة حماني ٠اتضح لي جليا أنها عازمة لا محالة من أول تركيب في نصها ، على اجتياح مدى الذائقات و الأذواق ، وعلى التغلغل في أعماق النفس الانسانية بكل تنناقضاتها : أفراحا أوأحزانا ،سعادة أوشقاء !
وأقربأن الشاعرة برعت في تنضيد لؤلؤات عقدها ، وترتيب ألفاظها لإحكام بناء نصها ، كطائر السنونو الذي يبني عشه (قشة/قشة ) أو البناء يبني الجدار (آجرة /آجرة ) ، كل واحدة يموضعها الموضع الذي تستحقه ، و سوء اختيارمكان الآجرة الواحدة يؤدي إلى انهيارالجداركله ٠
فكل ما اختارته بدقة وعناية من عناصر ووحدات لغوية ، يبقى ككومة الذهب لا جمال فيها ولا بريق ،حتى تلمسها لمسة الصيرفي، فتصوغها في إبداع بديع يروق العين ويثلج الصدر، كذلك الألفاظ لا تكتسب جمالها إلا عندما تخضع لعملية التركيب والصياغة إذ هي ألفاظ بدون بريق بعيدا إحكام الترتيب والصياغة ، والشاعرة لاتقل أهمية عن هذا الصيرفي المتقن صنعته !
ابتدأت الشاعرة من عنوان النث ( عزفك الرباب ) بمصدرعامل ، مضاف إلى فاعله ( كاف المخاطب ) يأتي المفعول به معمولا فيه منصوبا ( الرباب ) ثم تسكت على ذكر المبتدأ ، الذي تترك تقديره للمتلقي ،ليكمل الجملة النحوية ،التي لا بد أن تجر وراءها معان ستروقه عمقا وجمالا٠ وقد وفقت في توظيف الفاعل ضمير ( مخاطب) (الكاف ) فهذا الضمير حربائي الدلالة ، إذ غالبا ما يخرج من باب تخصيص (المخاطب/ فلان بعينه) ،إلي باب التعميم ،لأن طبيعة المخاطب في العمل الإبداعي تبقى بعيدة عن كل تخصيص ، فهو (كافي أنأ )و(كافك أنت ) و(كافها هي في حالة كسره ) و(كافه هو )!
وأظن أن عازف الرباب لا يخص عازفا بعينه رغم توظيف هذا الضمير ، ولعل مربط الفرس يكمن في أبسط تركيب إلى أكثره تعقيدا، في أبسط جملة شعرية إلى أكثرها تعقيدا ، كما سنرى خلال هذه القراءة !
الألفاظ منفردة موات جرداء ،وإن دلت على معان معينة ،لكنها تكون عبارة عن دلالات قاموسية ، بعيدة عن كل بلاغة ، فهي خارج حسن التركيب، وجودة الصياغة تبقى في نهاية المطاف مجرد أصوات ،يختلف نزولها على سمع المتلقي ، ثقيلة أو خفيفة !
فالاعتداد يكون بنسيج النص لا بالألفاظ مفردة ،كحبيبات الملح في الطعام ، وإن كانت هذه الأصوات جزءا لا يتجزء من جمال النص ، إلا أن العبرة بالنظم المسبوك المحبوك لا بالألفاظ مهما كانت فصاحتها ،لأنها تبقى باهتة الجمال سطحية المعنى،إلى أن تدخل حيز التركيب!
تقول الشاعرة :
عزفك الرباب أيقظ أغنيات البحر
ارتعشت له أطياف الماء !
تكمن روعة الصورة ، في نجاح الشاعرة في إسناد ما لا يسند، إلى ما لا يجب الإسناد إليه ( أيقظ / أغنيات / البحر ) مع وقوع خرق جد طفيف لا يخل بالقواعد النحوية ،يتجلى هذا الخرق، في التقديم والتأخير ، إذ تجعل هذه العملية الجملة أكثر بلاغة وأكثر استحساناو تأثيرا في نفس المتلقي، وقبولا في ذوقه، كتقديم الفاعل عن الفعل والمفعول به والإشارة لهذا الفاعل بضمير الغائب مستترا في الفعل، (أيقظ ) فتتغير وظيفته من الفاعلية إلى الابتداء. وأصل الجملة هو ( أيقظ عزفك الرباب أغنيات البحر ) وهي هنا لا تثير الانتباه ،فيبدو تركيبها عاديا لا جمال فيه ، و هذا رغم ما يحتويه من استعارة لا يمكنه أن يخلق جملة بليغة يستساغ تركيبها وتستحسن صياغتها ٠
فنلاحظ تآزر هذه الألفاظ مسندة لبعضها البعض( أيقظ / أغنيات / البحر ) إذ تعضد اللفظة السابقة اللاحقة أو اللاحقة تعضد السابقة ،عملية تفاعل لفظي لخلق سياق لا يخلو من استعارة ، تساهم في تكوين صورة تختلف حسب اختلاف تأويل كل متلق ، وفق ذوقه وذائقته ،كما يختلف تأثيرها ، إندهاشا وغرابة من هذا إلى ذاك !
فهل للبحر أغنيات ؟وكيف لعزف الرباب أن يوقظ أغنيات البحر ؟
و كيف ترتعش لهذا العزف أطياف الماء؟
فتوظيف هذه الألفاظ في تراكيبها ، يكسر المتعارف عليه ، على مستوى المعنى السطحي ( أطياف/ الماء ) أو (أغنيات/ البحر) .. فروعة العزف تتغلغل في أعماق هذه الطبيعة الساكنة ، فتحرك هدير أمواج البحر،وما هذا الهدير في هذا التركيب إلا أغنيات نائمة سيوقظها (عزفك الرباب) من سباتها، عزف ترتعش له صفحة الماء ،انتشاء وطربا !
فجودة الصياغة تخلع عن الألفاظ لباس معانيها ودلالاتها المعجمية كما هي باهتة في بطون القواميس،وإن كان هذا العزف سيختلف تأويله لا محالة ، تبعا لتصورات كل متلق،إذ لا يدل على مايدل عليه، على مستوى معنى كل لفظة كما هي . بل يظهر أن توظيفها في سياق الجملة أو حتى في السياق العام، للنص كما سنرى ،يكسبها دلالات أبعد مما يمكن أن نتصوره، خصوصا وقت الاكتفاء بقشور الجمل بعيدا عن الاستمتاع بحلاوة الثمار،بعيدا عن الإبحار في أعماقها للظفر بمعانيها الثواني ودلالاتها البعيدة الاهداف والمقاصد، وتلجأ الشاعرة ،لربط (جملها / سطورها ) الشعرية ، إلى توظيف ضمير عائد ، يحدد العائد عليه وهو ضمير الغائب وهو متصل في مجمل الجمل ، ويعود على (عزفك )!
تقول الشاعرة :
أدركته أساطير نمت على زوايا حلمي
صهيل غارت من فوحه زغردات العطر !
وإن كان تجزيء القصيدة إلى سطورأو مقاطع يفقدها بريقها أثناء القراءة والتحليل،إذ يصيبها التفكك ، نظرا لكونها تشكل وحدة متكاملة متماسكة ، وعزل بعض الجمل عن بعضها ، يؤدي إلى إتلاف تلك الصورالجميلة ، التي تريد الشاعرة اقتسامها مع المتلقي لأنها كالحلقات متصلة عراها ، لا تنفصم !
لكني لم أجد بدا من ذلك ،لأن روعة التركيب تشدك للوقوف على كل سطر على حدة ،وإن كان جماله لا يكتمل إلا بجمال السطر، أو السطور التي تليه أو التي قبله!
فالشاعرة تعمد لتأليف هذه الصورة التي ستخبو وتضي في ذهن القارئ ، كلما أمعن النظر أكثر، واخترق حجب ما وراء الكلمات ،إذ تعمد إلى تشييء المدركات بالعقل, فما كان للحلم زوايا إلا على سبيل انزياح اللغة وخلخلة منطق الصورة العادية المبتذلة في ذهن القارئ، كما تقلب مواقع الكلمات في ذلك التركيب المنطقي ، فتجعل العزف مدركا (مدركا بفتح الراء لا ( مدركا بكسرها ) وبالتالي تحول الفاعل في الأصل مفعولا به والمفعول به فاعلا في طيات هذه الجملة ، فالأساطير مدركة ونامية وليست مدركة (بفتح الراء ) كما يقتضي ذلك الحال !
وتجعل الشاعرة ( عزفك الرباب ) في النص بؤرة ومرتكزا تنطلق منه كل مرتكزات القصيدة ، وعليه تدور كل الدوائر ٠ وهذا يكسبه جمال الصورة ، التي قد يتعذر استجلاؤها وكشف سرها ومستورها إلا من خلال البحث عن دلالات تلك الألفاظ الموظفة في جمل القصيدة ، لأن طلاوة هذه الألفاظ تكمن جودتها في جودة تركيبها ، وتظل ليست ذات دلالة في بطون المعاجم، إلي أن تخضع لحسن النظم ،فتفيد معان راقية تساهم في تأليف الصورة! ، وتغوص الشاعرة في عمق التركيب، من أجل خلق هذه الاستعارات الرائعة ، فهذا (العزف صهيل زهرة فواحة) ،وما هو بزهرة، تغار منه( زغردات العطر) وما للعطر زغردات ،فتستعير من هذا وتعيرلذاك ، فتكسب هذا (العزف/ الصهيل ) روعة وجمالا معنى و مبنى !
عزفك الرباب :
أغنيات اكتملت بخافق الربيع
دهشة أبهرت حوريات الفجر !
روعة عزف لا تكتمل إلا بروعة تستمدها من جمال قلب يخفق جمالا (خافق الربيع ) الذي يخلق الدهشة التي تبهر حوريات الفجر ، فتسند الفاعل (دهشة / مبتدأ) إلى فعل من جنسه (أبهرت ) معنى ،وإن اختلفا في التأثير في نفس المتلقي (الدهشة / الإبهار ) ، وتغير مسار تفكير المتلقي ، عما سبق وترسخ في ذهنه ، إذ تعود ربط الحوريات بالبحر لا بالفجر ، لكنها تزيل تلك الصورة النمطية ، المبتذلة والكثيرة الاستعمال والتوظيف في اللغة المعيارية التواصلية ، لتؤجج حرقة التساؤل والسؤال في نفسه ، فتقلب في ذهنه كل المفاهيم و تخلخل ابتذال صورة ألفها ،من خلال توظيف (حوريات الفجر ) فهل للفجر حوريات ؟ وهل للربيع خافق ؟ تساؤلات تفتح الباب على مصراعيه أمام القارئ النبيه من أجل تأويل وتفكيك الشفرات والرموز التي تختبئ في ثنايا السطور الشعرية . كما يجعل توظيف هكذا ألفاظ في سياقات محكمة التركيب، النص مفتوحا على تعدد القراءات ، و اختلاف التصورات والرؤى من قارئ لآخر تبعا لمخزونه المعرفي أو خلفيته الثقافية و كذلك قدرته على رسم تلك الصورة التي تتوخاها الشاعرة من تراكيبها!
تقول الشاعرة :
صدى ممتد ٠٠
أذكى الجنون
أغرى فراشات النور
عزفك أغنيات بعثرها القدر
هوس ترقرق لؤلؤا على محيا الزهور !
ثم استفز غواية الشرود !
وتستمر الشاعرة ، في رحلتها لبناء نصها على جمال النظم وإحكام التركيب في كل سطور القصيدة بدون استثناء ، فتضع الفاظها في الموضع الذي لا يخل بجماليات اللغة ،والذي يقتضيه التركيب النحوي ، فما الكلام -خصوصا الشعري منه – إلا ما تقتضيه القاعدة النحوية دون إعاقة انزياح اللغة ،التي لا تخرق هذه القواعد النحوية ،من خلال التقديم والتأخير ، والتلاعب بمواضع الكلمات في جغرافية الإعراب ، إضافة إلى اختلاف المسندات إلى المسندات إليها، و تحافظ أحيانا أخرى على ألفاظها في موضعها الطبعي. فتوظيف [الخبر] الذي اتضح عبر القصيدة، والذي يقدرفيه المبتدأ، فهو لا يعدو أن يكون غير هذا [العزف ] الذي يمكن تأويله بالمبدأ او الفكرة الفلسفية،أو جمال هذا الكون المتناقض ،الذي يتجلى في هذا[ العزف]٠
هذا بطبيعة الحال إذا كان القارئ ، يعرف كيف يفك إغلاق الأصداف للظفر بما فيها من درر وجواهر دون تكسير القوقعة٠ فقد تعكس أنشودة حب كل ما في النفس البشرية من خير وشعور بالجمال والجلال، فهذا (العزف/ الصدى ) الممتد يجتاح مدى النفس الإنسانية بخيرها وشرها فيؤجج فيها جذوة جنون كل ما هو رائع ، ويجر إليه نفوسا تنجذب للجمال ،كفراشات النورالتي تنجذب لجمال اللهب دون إدراك مخاطره ٠ وما النور إلا جمال يستوجب التضحية والمغامرة٠
فهذا العزف سيصنع من الهوس لؤلؤا مترقرقا على محيا الزهور٠ ومهما عاكست الأمواج مسير السفينة ، فحتما ستتخذ مسارها الصحيح إن آجلا أو عاجلا ، كلما استيقظ في النفس الإحساس بروعة الجمال ،التي تستلزم استفزاز غواية التفكير في وجودنا ،وفي عالمنا الذي يحكمه التناقض!
تقول الشاعرة :
وجع الصبر
عزفك الرباب
انهمرت له عيون الغيم
وعشب نما
رياحين شوق
على الرواسي أينع ضياء
غيب دياجي العمر
وحتى تسير السفينة في مسارها وتتغلب على عناد الموج ، ثمة وجع وألم و تضحية ،مع حسن الإنصات ، لما يخالج منا الروح والقلب والجوارح ،لتفجير مواطن الإحساس بالجمال ، في هذه النفس التائهة في متاهات معترك الحياة .
توظف الشاعرة أفعالها ماضية ، لكنها دالة لا محالة على أيضا على المضارع والمستقبل، فعيون الغيم انهمرت وأبد الدهر ستظل تنهمهر ، كلما وخزها عزف الرباب ( وشعورها بالجمال ) وسينمو عشبا و رياحين شوق لا أشواكا ، ستجر أسلاكا في صدور من لا يحسنون الإنصات لأغنيات الجمال والجلال ٠٠ الذي سيحول دياجي العمر إلى ضياء يستضاء بها في ظلمات عتمة النفس ٠
عبر مختلف سطور النص ، نلاحظ أن الشاعرة تتعالى على التوظيف المباشرلألفاظ قد لا تفيد شيئا من المعاني ، و لا تلوح روعتها للعيان إلا بتركيبها في سياق الجملة،فستمد اللفظة مزيتها وفضيلتها ، مما بعدها او مما قبلها ، فتجمل بجمال اللفظة التي قبلها و يختفي قبحها بجمال ما بعدها ، فهذه العيون تسند للغيم ، وهذه الرياحين تسند لشوق يضيء لينير عتمات العمر، فروعة التركيب هو لا محالة متجل في صياغة جمل لها دلالات في الصورة التي ستخز وخز الابرة مخيلة القارئ ، وتدفعه ليساهم في خلق صورة تستمد فضيلتها ومزيتها في الكلمة الراقية ( الشعر ) وفق منظوره الخاص ٠٠٠ فالألفاظ لا تحظى بقيمتها ، ويحكم لها بالفضل والفضيلة إلا من خلال هذا التأليف المحبوك و المسبوك في ثنايا سطور القصيدة ، فما مزية (عيون دون إسنادها إلى الغيم ) وما فضيلة( رياحين دون إسنادها للشوق) وقس على ذلك في بقية كل السطور ، التي تحلق بالقارئ في عالم بعيد ليتخيل تلك الصور، التي سيسنتجها من خلال تفكيك هذه التراكيب المتخمة بالاستعارات والمجازات والرموز ، بعيدا عن كل البعد عن تلك اللغة المعيارية المبتذلة ، التواصلية ، فلغة الإنتاح الأدبي خصوصا الشعري منه، تستوجب القدرة على حسن انتقاء الألفاظ ، وموضعتها الموضع الذي تستحقه لخلق الغريب و المدهش في كل صياغة ، وإلا انتفت الشعرية عن النص فهو ليس في اعتقادي كما عرفه القدماء كلام موزون مقفى ،وإن لم يكن هناك مجال للمقارنة ،بل هو جمال النظم والتركيب ، وحسن الصياغة أثناء اختيار المسندات إلى المسندات إليها ، لخلق المتعة في نفس المتلقي تركيبا وصورة ، مبنى ومعنى ، وجمال المعنى لا محالة من جمال روعة هذا التركيب والصياغة ، ما عدا ذلك ،أظنه سيبقى كلاما عاديا وإن تحققت فيه بعض المقومات الفنية في الشعر! وترافقنا روعة النظم في رحلتنا عبر سطور القصيدة ، التي كنت مجبرا على تحليل بعضها إذ يبدو هناك نوع من التقصير ، وإن قلت في بداية هذه القراءة ، إن التحليل الذي يجزئ القصيدة كوحدة ، غالبا ما يسيء للنص ،لكن كان ذلك إجبارا ، لأن جمال كل سطر شعري يسلمك إلى سطر آخر أكثر جمالا ،وتركيبا واستعارة أروع مما سبقها ، فتشعر وكأنك العطشان في صحراء مقفرة يتبع السراب ليروي عطشه، حتى تستنفد كل أبيات القصيدة , فتصدمك نهاية أروع من البداية فتطلب المزيد ٠ واستمرارية القصيدة ، لا محالة من روعة ما ينحت نحتا وينقش نقشا لا يمحى ولا يزول من على جدار ذاكرة المتلقي !
هذه قراءة قارئ هاو ،مولوع بقراءة جميل الشعر ،قراءة لا تخضع لقيود تلك المناهج النقدية ،التي تحد من حرية وحركة القارئ، فيقرأ النص بذوق وذائقة غيره ،وأحيي في الشاعرة هذه القدرة على دغدغة ذهن المتلقي من خلال جودة الصياغة وحسن التركيب ، لإنتاج الصورة ، مع ترك مسافة بينه وبين النص للتأويل وتفكيك الشفرات والرموز ، وهذا حق محفوظ لكل قارئ،، بعيد عن السلبية والاستهلاك ، المجاني ، مولوع بالقراءة المبدعة ، وإعادة بناء النص وفق تصوراته الشخصية ، ووفق فلسفته الخاصة في الحياة !
—————————————————————-
النص المقروء للشاعرة :نبيلة حماني
——–عزفك الرباب —————
عزفك الرباب أيقظ أغنيات البحر
ارتعشت له أطياف الماء
أدركته أساطير نمت على زوايا حلمي
صهيل غارت من فوحه زغردات العطر ..
عزفك الرباب
أغنيات اكتملت بخافق الربيع
دهشة أبهرت حوريات الفجر
صدى ممتد ..
أذكى الجنون
أغرى فراشات النور ..
عزفك أمنيات بعثرها القدر
هوس ترقرق لؤلؤا على محيا الزهور
ثم استفز غواية الشرود ..
وجع الصبر..
عزفك الرباب
انهمرت له عيون الغيم
وعشب نما
رياحين شوق
بالنبض امتد ..
على الرواسي أينع ضياء
غيب دياجي العمر
عزفك صهيل الأمنيات
رذاذ غمر ذابل العروش ..
أنين أحيا أجنة الفرح بخافق الارض
بسمات كشفت كوامن جرحي
حروف أيقظت لظى السحر ..
عزفك تقاسيم شدت النياط
حملت الرؤى لمدارات الفلك
ونواميس عشق تجبر..
فتنة تعاظم مداها
ثورة احتدمت بالنبض
طالت الرياح العاتيات
تدفقت طوفان حنين لا يبقي ولا يذر..