إبداعات
ضحكات على جدار الموت
قصة- داليا السبع:
وداعاً للروح تلك المتهالكة بين الضلوع ، ناقوسٌ دقَ إعلان النهاية لحن جنائزي به جثمان الإرادة لفظ أنفاس الحياة مرغماً، أسمعهم يتحدثون ويبكون يصرخون وهناك من يبتسم أسمع قهقهة ضحكات نفسه الخبيثة وأنا بين أذرع الصمت مقيد الحراك معلقة روحي بين السماء والأرض ماجدوى الحديث هنا ؟!.
عتاب زمان أهلك خلايا نفسي قتل أخضر حلمي مزق جعبة أملي، لفظني خارج ميناء الحياة،فُقدت نفسي وأُهِدرَت إنسانيتي ،ضاع كل شيء فأين أنا اليوم؟ وأنا محمول على الأعناق إلى مثوى النهاية، حقيقة لا تحتمل خلاف فأين منطق العقل هنا الذي تظل نيران أفكاره مضرمة تأبى أن تخمد ؟! ماذا تفعل بتفاصيل محفورة على جدرانها لم تزلها تبعات السنين رغم قسوتها؟! أود الصراخ لكنه عجزي المعتاد، عجزي الذي سئمت تملكه ذاتي.
في ليلة ماطرة والشتاء يضرب جدران المنازل من الخارج يزحف البرد على جسدي يجتاح بقسوته كياني وأنا والعجز صديقي نجلس في زاوية من زوايا منزل قديم الأمطار تخترق سقف غرفتي الوحيدة به تتراقص وكأنها علي وقع لحنٍ لبتهوفن صاخب أثارت بداخلي دوامة من صراع لست المنتصر فيه بلا شك، منذ متى وكان الانتصار حليفي ؟! لا مكان للاختباء .
تهاجمني الأمطار كمفترس يطارد فريسة ًبائسةً تعلم أن نهايتها وشيكة أقفُ أمام مرآتي المتسخة ، أبحث عني ،ظلال معتمة وخيالات يطل منها شبح إنسان يسيل على وجهي صبغة زائفة اعتدت أن أضعها على رأسي هي محاولة فاشلة لإخفاء قسوة الزمن ووحشيته الذي أسقطت قناعاً لطالما اختبأتُ خلفه خوفاً من مجابهة حقيقتي الصادمة، كيف تسرب العمر هكذا في لحظات من بين أنامل الأيام دون أن أدري، أمسح وجهي بيدين مرتعشتين تجمدتا من البرد أم تراه الزمان العار الذي أصابني بداء الوهن دون أن أعلم متى؟ وكيف؟.
يستفيق “أيوب” من صراعه الذي لا ينتهي بصرخة “كتبي أوراقي” ! هل نالت منها الأمطار؟! يهرول إلى زاوية أخرى في غرفته يصعد على كرسي خشبي قديم لا تستطيع الجلوس عليه من كثرة ما به من مسامير بارزة يحاول أن يقف عليه دون أن يسقط يتحسس أعلى دولابه الخشبي ليحضر حقيبة قديمة يهرع لفتحها يزيل غطاءً بلاستيكياً أسود سميكاً، يتفحص مجموعة من الكتب القديمة والكثير من الأوراق التي امتلأت بها هذه الحقيبة ، ومن ثم يحتضنها وكأنه يعانق محبوبة له لم يرها منذ زمن ، يتنهد بسعادة يعقبها الحمد والشكر لله ” الحمد لله لم تطالها الأمطار ” يسمع دقات الباب ! من ياترى سوف يأتي بهذا الوقت المتأخر وبليلة شديدة البرودة كهذه؟ أيوب وهو واقف خلف الباب يضع أذنه عليه يتردد في السؤال!
وبصوت خافت يقول من بالباب؟ يجيبهُ صوت يرتعش من البرد هذا أنا “دياب “.
“أيوب” أهلا بك ما الخطب ما الذي جاء بك يجيبه دياب أليس لديك هنا ما نستدفئ به يارجل ! أين أجلس والمطر يخترق أغلب مساحات الغرفة تقع عينه على الكرسي ولكنه سرعان ما يتراجع عن فكرة الجلوس عليه ينظر إلى الحقيبة بينما يعد “أيوب” كوبين من الشاي الساخن على موقده الذي قد ناله الصدأ من كل جانب، يحضر دياب الحقيبة ويضعها كل الكرسي ليتمكن من الجلوس وإذا بي أصرخ في وجهه” إياك وهذه الحقيبة ” وأسرع وأحتضنها بشدة، فينتبه “دياب”في تعجب من تصرفي الغريب متساءلاً ماذا بها لتفعل كل هذا ؟! قالها وهو يمسك بكوب الشاي ؟ أيوب : بها كنز يا صديقي ! فينتبه “دياب” له قائلاً: عن أي كنز تتحدث ؟ “أيوب” سوف أخبرك ويقوم بفتح الحقيبة ويظهر أمام “دياب” مجموعة من الكتب والأوراق ويحضر بعضاً منها ويبدأ في سرد مابها.
يتحدث معقباً هذه واحدة من قصص كثيرة قمت بكتابتها على مدار سنوات طويلة يقولها وهو يتنهد متحسساً الأوراق بأنامله، ينظر له “دياب” حقاً رائعة، إنه كنز حقيقي يا صديقي ، أيوب في حسرة ولكنه سوف يظل بين ظلمة هذه الحقيبة القديمة لن يعرف به أحد ! قاطعه دياب مسرعاً لا لن يكون هذا حاله سوف أعرض قصتك هذه على من أعمل لديهم، هناك الكثير من المخرجين والمنتجين وغيرهم ، قاطعته وكيف هذا وأنت عامل بسيط تقوم بالتنظيف وإعداد القهوة والشاي لهم فقط ، من سيستمع لك من .
يقاطعني: سوف أتمكن من إيصالها وعرضها عليهم وسوف سيبرز نجمك في السماء ستحقق حلمك المدفون منذ أعوام ستحصل على رغباتك كلها مرة واحدة ،ستتمكن حينها من الزواج من حبيبتك هل نسيت أمرها! “صفية” كيف ينساها قلبي ويغفل عنها تفكيري تسكن خلايا روحي تشرق شمس الحياة عندما تلتقيها عيناي مارة بجانب منزلي وهى في طريقها إلى المصنع بسمتها الخجولة التي تصاحبها حمرة الورد الندي على أغصانه ، “دياب”: آهٍ تباً للعشق ولوعة الحب .
الآن سآخذ قصتك هذه وسأفعل ما بوسعي لا تقلق ، لم تقل لي ماذا أسميتها ؟ يجيبه” أيوب ” أسميتها” القرين “
يودعه دياب بسلام ووعود رسمت أمامه أحلاماً وردية وتساؤلات هاجمت مخيلته هل سيتحقق حلمك أخيراً هل ستتصالح مع الدنيا قريباً ودمعة فرح وجلة تسيل على خده الذابل ولما لا ربما.
يأتي يوم جديد تشرق شمس النهار يرتدي ملابسه التي كان يضعها على الحبال خارج نافذته الصغيرة لتجف من أمطار البارحة ، ويستعد ليخرج إلى عمله بمدرسة” أم القرى” الابتدائية في محافظة البحيرة حيث يعمل مدرساً للغة العربية شعر بأنه إنسان جديد بروح جديدة ونظرة للحياة لم يعهدها من قبل، تستمر الأيام وتتوالى الدقائق والساعات ويمر الوقت ويخبو الأمل مع أفول شمس كل يوم يمر دون خبر من صديقه.
ينتظر عند نافذته الصغيرة عله يأتي إليه بخبر يجعله في لحظة يعانق النجوم ويقبل ثرى الأرض حمداً وشكراً،
مضت شهور وهو ينتظر دون جدوى، ينظر لمحبوبته التي عشقها منذ زمن ليس بقليل وهى تذهب إلى عملها كل يوم ولكن نظراتها اليوم ليست ككل يوم ! ماذا هناك ياترى ما الذي حدث ! هل سئمت الانتظار هل ملت العشق الصامت هل ضاقت ذرعاً بحبي الذي لم تر معه يوماً جميلاً هو كذلك بلا شك ، إلى متى الانتظار . حتى تذبل زهرتها ويجف غصنها وتسقط هشيماً على أعتاب الزمن وقسوته ، ولكنك تعشقها يا” أيوب “.
يحدث نفسه بانزعاج ولوم حسرة وغضب ولكن يعود ليقيده عجزه الذي يصاحبه ويأبى أن يتركه، تمضي “صفية” من أمامه وكأنها تودعه، يمسك قلبه الذي تسارعت دقاته وخذيملأ جسده فجأة ولكنه عاجز.. عاجز .. تباً لصمتي وقلة حيلتي..
ينتظر دون فائدة يتساءل أين ذهب “دياب ” ومن ثم يقرر الذهاب إلى مقر عمل صديقه، يستقل الحافلة وفي رأسه الكثير من التساؤلات أين ذهب صديقه لماذا لم يره منذ شهور ما الذي حدث ؟!.
تقف الحافلة عند محطة نزوله وهو مازال شارداً يقاطع شروده عامل الحافلة “الكمسري” وصلنا يا أستاذ، ينتبه بسرعة ينهض وهو ينظر له مكرراً كلمات عامل الحافلة وصلنا إلى النهاية، وصلنا إلى النهاية .
ينزل ويقترب من بوابة منطقة الإنتاج الكبيرة هناك ويسأل عن صديقه يسمحون له بالدخول، يمشي ببطء شديد ربما لم يعتد مثل هذه الأجواء أصوات عالية عمال يذهبون هنا وهناك، أدوات تصوير و كاميرات كثيرة أماكن إعداد الممثلين كلهم يعملون، إنها حياة أخرى لا نعرفها وقعت عيناه على إعلانات ملونه للممثلين والممثلات يتوسط هذه الإعلانات الملونه التي امتلأت بها جدران المكان الكبير فيلم سنيمائي اسمه “القرين” تسمرت أقدامه لم يتمكن من الحركة، تحجرت الكلمات في حلقه، وظل يتصبب عرقاً دون توقف “القرين ” هذه قصتي نعم هي.
ذهبت فجأة إلى الإعلانات التي امتلأت بها الجدران لأتحقق هل هذه حقيقة أم محض خيال وشطط واقع به نفسي دون أن أدري .
حقيقة … نعم حقيقة … لا أصدق أتابع الأسماء والكلمات ولكن أين اسمي؟! إسم المؤلف…. انهارت نفسي فجأة المؤلف شخص أخر … لا أعلمه.
من هذا وكيف يحدث أخذت أمزق هذه الإعلانات دون وعي بوحشية وسط صراخي الذي لم يتوقف لحظه هذه قصتي أنا ! هذه القصة لي من هذا المؤلف ؟ انتبه له جميع من في المكان الضخم حيث سارع أفراد الأمن إلى الإمساك به قبل أن يتلف المكان بتصرفاته الهمجية.
جاء مدير الإنتاج والمخرج وقالا له .. من أنت بصوت صارخ؟ هل أنت مجنون؟ هل فقدت عقلك ياهذا؟ من سمح لك بالدخول؟، أجيب بإعياء أنا صاحب هذه القصة أنا ..أنا مؤلف قصة” القرين” هذه التي وضع رجل آخر اسمه عليها!، يطالبان دون تردد بإخراجه خارج أسوار المكان و تهديدهم له بتسليمه للشرطة.
يصمت ويسلم بعجزه المعتاد، ويذهب ليستقل الحافلة ووهن العالم في جسده الذي كان عاجزاً عن صعود الحافلة المزدحمة بالركاب ،شعر بأن أقدامه لم تعد قادرةً على حمله ،سقط فجأة استفاق وهو جالس على أحد المقاعد بالحافلة ينظر يميناً ويساراً يتفقد نفسه تقف الحافلة وينزل منها ما تبقى من ركاب أحاول النهوض أتمسك بالكراسي المتراصة كي أسترجع قدرتي، أسير وأنا أنظر إلى الأرض في طريقي إلى المنزل أصوات الزغاريد تملأ المكان الجميع يقومون بوضع الكراسي بالشارع وتعليق الزينات والأنوار الملونة ، على منزل من ؟! منزل صفية حقاً إنه هو! أقترب أكثر تعالت أصوات الزغاريد والغناء
النافذة مفتوحة رأيتها وهي ترتديه نعم..
الفستان الأبيض الجميل زهرة ياسمين عطرة ندية ، ستتزوجين يا”صفية”! وماذا كنت تنتظر يا مجنون هل سترصد عمرها للضياع والحرمان معكَ و إلى متى؟ يدخل وهزائم الروح نالت من جسده الذي ظل يتخبط بأركان منزله القديم ظل يركل الأرض بغضب يركل الكرسي المتهالك أمامهُ يهرعُ إلى النافذة ليلقي النظرة الأخيرة على حبه الضائع وأحلامه التي ضاعت ولن تعود ، ليجد صديقهُ يمسك بذراع “صفية” والتباريك تنهال من حولهما مبارك لكما … زواج سعيد.
لقد تزوج دياب من صفية باعك صديقك ياأيوب … ارتسمت ملامح الغضب والجنون ملامح شيطانية جعلته يحطم محتويات منزله المتهالكة كنفسه المحطمة وسط صرخاته مردداً، ليموت الإنسان وليستيقظ القرين، ” مت يا إنسان اصحُ يا قرين … اصحُ يا قرين مت يا إنسان “، وسط صرخات وضحكات جنونية … هي صرخات و ضحكات على جدار الموت.