كنت أناديها جدتي
بقلم- تاجوج الخولي:
( 1 )
قدمان في الماء، وظهر محني تلفحه الشمس .. يدان تتحركان في تبادلية محسوبة لفصل شتلات الأرز ثم إعادة زرعها في تربة طينية لزجة مغطاة بالماء بمقدار شبراً , مع الوقت تزداد درحة حرارة الماء، تمتليء تشققات القدمين بالطين وتزداد خدوش اليدين ويتصبب الجسد النحيل عرقاً, يزداد علي غير العادة.. يثقل الرأس، ينكفئ الجسد بالطين , يسرع الزملاء لإنقاذها ، يخرجونها من حقل الأرز، تتولي الشابات رعايتها حتى تسترد وعيها.
(2)
هو وصبيّه يطوفان العزب والقرى كلٌ يحمل صندوقه وفي مكان ويوم ، غالبا ما يوافق ن يوم السوق الأسبوعية ، محددين . يبدآن العمل في تفصيل ورتق وتلميع الأحذية ..عصرًا ينصرفان إلى منزل المعلم, هكذا عاش الفتى لسنوات بعد وفاة والديه تباعًا, رعاه الإسكافي وعلمه صنعته وكلَّ ما يعرف عن الدنيا.
(3)
علي غير العاده استيقظ أولاً؛ ذهب ليوقظ المعلم، لكن عبثًا.. لقد أسلم روحه ومضى.. علا صراخ الفتى, إجتمع الجيران وبدأ التجهيز للدفن, منهم مَن استخرج شهادة الوفاة, ومَن أخبر باقي الجيران، فيما ذهب الفتى لشراء الكفن ولوازم التشييع بشكل لائق.
في اليوم التالي حضر أقارب المعلم وطردوا الفتى من المنزل ذي الطابقين, ولولا تدخل أهل الخير ما كان ليحصل على أحد الصندوقين .
حائرًا حزينًا، بلا مأوى ولا سند حمل أغراضه وبدأ رحلته وحيدًا.
(4)
لليوم الرابع على التوالي وبعد أن تعافت من وعكتها الأخيرة تعود من سوق الأنفار بلا يومية، فقد ابتعد عنها الرفاق وفقدت مكانها في أي مقية (مجموعة عمل الأجراء) كذلك تجاهلها مقاولو الأنفار, فمن يرغب في استئجار مريضة غالبًا لاتكمل يوم العمل.
وحيدة عادت إلي منزلها, ذبحت دجاجتيها الجائعتين, طرق الباب، لم تنتبه لعله أي باب آخر, نادت إحداهن باسمها، أسرعت لعلها إحدى النسوة جاءت لتعهد لها بشيء من الأعمال البسيطة كفرز الأرز أو تجفيف الملوخية، مقابل أجر عيني, إذ بإحدى الجارات ومن خلفها الفتى صبي الإسكافي, طلبت منها الجارة تأجير إحدى غرفيتها للفتى فوافقت بشرط فتح بابها في الشارع.
( 5 )
كيف سيتم ذلك، نعم.. أجهز الطعام وهو من يدفع ثمنه، أغسل الملابس ويدفع ثمن الصابون، لكن كيف.. لو كنت تزوجت منذ زمن لأنجبت شابًا في مثل سنه فأنا على عتبة اليأس وهو على باب الأمل.
نعم إنها تكبرني بكثير لكنها حنون ترعاني وتهتم لأمري, أنا لا أملك شيئًا وهي تملك منزلاً له فناء خلفي، لها سرير أفضل من ذلك الفرش في ركن “الدكان” / الغرفة ولديها “دولاب”.. هي ترغبني، تحدثني بلطف وعندما تراني تبتسم وتصلح من زينتها، سأطلبها للزواج.. سأفعل .
( 6 )
أنفق الفتى على تجديد الغرفة, طلى جدرانها بنفسه باللون الوردي, وأحضر من يجدّد “السرير” و”الدولاب” وجاء بمرتبة جديدة .
أخرجت ما تبقى من ’شوارها’، الذي باعت منه الكثير أثناء مرضها، أحضر لها المعارف بعض “نقوطها” القديم, فاشترت ما تيسر من لوازم العرس، وذهبا إلى المدينة لشراء قرط ذهبي؛ قدمه لها الفتى كمهر.
تحسنت صحتها وأصبحت أكثر إقبالاً على الحياة، لكنها صحوة عابرة مرت بالشباب الذابل.
( 7 )
خرجت مرهقة من أعمال المنزل البسيطة، تتلمس شيئًا من نسيم, لاحظت نظرات زوجها للشابات المارّات في الطريق، راقبته.. شعر بوجدها.. انسحب إلى داخل الدكان خجلاً .
مساءً فاتحته في الأمر، حاول الإنكار ولكنها عاودت الطرح مبدية عدم ممانعتها بل ورغبتها في تزويجه بأخرى، معللة ذلك بقلة فقرهما وأنهما يملكان الكثير من البضاعة علاوة على صنعته المميزة، وأضافت أن صحتها في تأخر وأصبحت تحتاج من يساعدها، بل ويرعاها
( 8 )
في الفناء أضيفت غرفة، جاءت إليها زوجة جديدة، وللحياة مزيداً من الأطفال، حرصت الزوجة الأولى بعد عودتها من الحجاز على بناء غرفة خاصة بهم لكن علياً رفض إلا جوارها، فقد تعود منها إيثاره على الجميع، فهي تفضل رفقته وهو يرعاها ويؤنس وحدتها ليلاً ويحرص علي تقديم أدويتها في ميعادها. ذات حنين حاول إيقاظها فلم يفلح، قلقًا نادي أمه، جاءت إليها متلهفة فزعة. تعالى صراخها.. اجتمع من في الدار، لقد ماتت الجدة، هكذا صرخ الأولاد جميعًا: لقد ماتت جدتي .
نادت مكبرات الصوت: “توفيت إلى رحمة الله تعالى الحاجة فلانة.. زوجة المعلم فلان… والدة علي”.
ازداد صراخ علي وتحوّل إلى نحيب مكتوم اتجه إلى أبيه: أكانت زوجتك .. أكانت أمي؟؟!!، ثم أطلق آهة طويلة آآآآه ه ه هٍ.. كنت أناديها جدتي .