إبداعات

رسالة إلى جبران

 

بقلم- أميمه عبد العزيز:

فيما أتصفح جوجل قرأت قصة مي وجبران التي استمرت عشرين عامًا بدون لقاء حتى وفاة جبران، لم يلتقيا سوى بالرسائل التي كانت تحمل الحب والأمل والحياة في سطورها.

تأثرت بها كثيرًا، فمن أكثر المشاعر إيلامًا أن تحب ولا تحيا بجوار من تحب، كيف تحملا مثل هذا الشقاء؟ وأي عشق هذا الذي يتحدي الواقع بكل صعوباته ليظل صامدًا في وجه أعاصير الحياة، لابد وأن يكون حبًا خالصًا نقيًا طاهرًا يستمد طاقته من النور الذي ينبعث منه.

كان أمتع شيء عندما أعثر على خاطرة جديدة لمي، كنت أرى نفسي في كلماتها إلى أن انفصلت تمامًا عن واقعي وعشت فيها، ولم أكن أفرّق أحيانًا بين الواقع والخيال، كنت أنسىاسمي وملامح وجهي، كانت تعيش بداخلي أو هكذا أردت.

كل صباح أتعمق في تفاصيل حياته،أو أبحث عن خاطرة كتبتها مي ورسالة أرسلتها له، والغريب أن المسافات البعيدة لم تخلق أي عائق أمامها، فما هو هذا الكائن الذي يسيطرعلى القلوب والأرواح بكل هذه القوة فلا يستطيع الإنسان فعل شيء سوى الرضوخ له؟

وكعادتي كل يوم بدأت رحلة البحث عن رسالة أو خبر أو حتى خاطرة لم أقرأها من قبل، حتى عثرت على بضع كلمات من رسالة مي لجبران كتبت فيها:

“أعرف أنك محبوبي وأني أخاف الحب، أقول هذا مع علمي بأن القليل من الحب كثير”.

أخذت أقرأ هذه الكلمات عدة مرات فقد اعتصرتني كلماتها، فأنا أيضًا أخاف الحب وأهرب منه كلما حاول طرق أبوابي، هربت من نفسي وبنفسي حتى لا أقع فريسه له، حتى عزلت نفسي عن العالم كله وبقيت في وحدتي آمنة من طرق أبوابي، ولكن لا أدري ماذا حدث لي الآن، فأنا أشعر بالانزلاق رويدًا رويدًا في قصة حب غريبة.

لقد امتلكني شعور دافئ يسري في عروقي، يتغلغل في أحشائي، يجعل قلبي يدق طربًا حين أقرأ كلماته، أنا لم أره أبدًا ولم أسمع كلماته بصوته ولن أستطع.. فزماني غير زمانه ومكاني غير مكانه، كيف أعشق كلمات، وكثيرًا تساءلت هل هو خيال أم حلم وسأصحو ذات صباح وقد نسيته؟

هل سأنتظر طويلًا مثلما انتظرته مي حتى ألقاه عندما يؤذن لي بالذهاب إلى عالمه؟ كيف اكتفيت مي بالقليل من الحب؟ وكيف شعرت به كثيرًا وأنا أشعر أن الكثير منه قليل؟

كانت مي في شوق لرؤيته، شوق يحرق الأنفاس فتصاعد منها الدخان الذي كاد أن يغطي جدران غرفتي ويحجبني عن واقعي.

انتظرته مي كثيرًا على وعد بالحضور للقاهرة، ومرت الأيام ثقيلة وهي في انتظار وصوله، وأنا معها تسكن روحي وأسكنها ومن وقت لآخر،أذهب إلى مطار القاهرة أتجول في أروقته، أنظر في وجوه القادمين، أجوب ساحات الانتظار، أجلس هناك بالساعات في انتظار جبران.

هل يأتي؟ وهل يعلم أنني في انتظاره؟ وإن علم بمدى شوقي ماذا سيفعل؟ ربما سيأتي برغم الضباب الذي أخفى عنه وجودي.

سأنتظره ولن يدب اليأس في عروقي، فما الحياة إلا قطرات أمل تذوب في دمائنا، وما اليأس إلا انقطاع المطر عن واحاتنا.

كلما افتقدته كتبت له رسائل حتى امتلأت أدراجي، لا يهمني اختلاف الزمان أو المكان فهما وهم، وأدرك تمامًا أنك تحيا الآن في مكان ما في الوجود وتشعر بي، فلا شيء قادر على محو الحب إن اشتعل في القلب، ولا قيد يطفئ الشموع إن اتقدت.

عندما قرأت وصية جبران، وهي كلمات كُتبت على قبره وكأنها رسالة لي، أنا زينب: “أنا حي مثلك وواقف الآن بجانبك فأغمض عينيك والتفت تراني أمامك”.. كنت أتساءل هل كتبها لأقرأها ليزداد تعلقي به؟

أما كلمات مي فقد كانت تصرخ بداخلي، تهزني، تجعلني أتمرد على الواقع الذي يكبلني بقيوده، لم أعد أهتم بآراء من حولي، لم أعد أراهم أو أسمعهم، أصبحت أسيرة في زمن بعيد، لا أريد العودة مرة أخرى إلى الحاضر.

بدأت أصاب بالارتباك في معرفة من أنا، مي أم زينب!

مروة إحدى صديقاتي تزوجت حديثًا بعد حب دام سنوات طويلة وتوفي زوجها في حادث سيارة، كنت أجدها تبالغ، فجبران أيضًا متوفَى إلا أنني لا أشعر بأي وحدة ولايغيب عني لحظة واحدة، فهل أنا أختلف عنها أم أنها تفتقد وجوده المادي الذي تعودت عليه لسنوات؟

قرأت مقولة مي: “وما السعادة في الدنيا سوى شبح يُرجى فإن صار جسمًا ملّه البشر، لم يسعد الناس إلا في تشوقهم إلي المنبع فإن صاروا به فتروا”.

فهل نحن كائنات يشدنا كل ممنوع وصعب المنال؟ هل لو كان جبران إنسان عاديًا أكنت أهرب منه؟ ربما.

ذهبت لملاقاة صديقتي مروة، وقد تبدلت ملامحها، كانت حزينة أكاد لا أفرق بين سواد ملابسها والحزن المطبق على ملامحها، كلاهما يزيد الأمر سوءًا.

جلست بجواري تحاول رسم الابتسامة على شفاهها، لم أكن أعلم ماذا أقول لها، هل أواسيها مثلما فعل الجميع أم أقترح عليها أن تكمل حياتها وتنساه أم تعيش مثلي قصة حب مع روحه؟ ولكنها فاجأتني بسؤالها عن سبب تواجدي في المطار، فدهشت كيف عرفت أنني أذهب إلى المطار؟! ولمحت الحيرة على وجهي فابتسمت قليلًا وذكرتني بأخيها مراد الذي يعمل هناك، وقد رآني أكثر من مرة.

نظرت لها طويلًا، وأخذت أبحث عن مبرر، ولكني آثرت الحقيقة.

قلت: أنا أعيش قصة حب مع روح جبران خليل جبران.. نظرت لي بدهشة! فابتسمت وأخرجت من حقيبتي مذكرات أملآها بخواطرى لجبران، وبحثت عن خاطرة كنت كتبتها بعد عودتي من المطار وأنا حزينة لعدم حضوره، فنظرت فيها وأخذت تقرأ كلماتها حتى تساقطت دموعها ونظرت إليّ في شفقة، وقالت لي لم أكن أعلم أنك تعيشين ما أعيش، كيف حدث هذا… كنت أتخيل أنني الوحيدة التي أشعر بمثل هذه الغربة والوحدة، ولكن أنا لا أفهم كيف تتعلقين بشخص غير موجود بكلمات وسطور على الورق، قلت لها في غضب “بل عقل وفكر وروح وهذه الخواطر والرسائل هي وسيلته ليتواصل معي، أنا ما تمنيت في حياتي أن أرى إنسانًا مثلما تمنيت أن أرى جبران”.

لا أخفي عليكِ يا مروة أحيانًا أنظر في المرآة فأرى صورة مي زيادة، وكثيرًا ما شعرت باختلاط مشاعري، لست أدري هل هذا نتيجة أنني أعيش قصة حب صوفية أم أنني قد أصابني الجنون؟

لا أدرى إن كانت مروة استوعبت ما أقول أم لا، ولكنني شعرت أنها على الأقل نسيت قليلًا حزنها وانشغلت بما قصصته عليها.

مرت عدة أيام داومت خلالها على حضور عدة ندوات ثقافية عن الأدباء العرب، حتى حضرت ندوة عن جبران كانت تتحدث عن مولده وشبابه وتأثره بالحياة في المهجر، وكنت شغوفة بمعرفة تفاصيل حياته، وكنت أنظر إلى صورته المعلقة على الحائط فأشعر بعينيه تبتسم لي، وبعد انتهاء الندوة أخذني حنيني إلى المطار، جلست في صالة الانتظار وعيني مثبتة على الأبواب.

كنت أعلم أنه لن يأتي ولكن رغبتي في انتظاره تلح علي ولا أستطيع تجاهلها، جلست طويلًا ومرت ساعتان وأنا لاأفعل شيئًا سوى النظر إلى الأبواب وإلى وجوه المسافرين لعلني ألمح وجهه، وانتبهت إلى وقوف شخص بجانبي، رفعت عيني إليه وجدته مراد ينظر مبتسما فابتسمت، جلس بجواري سألني عن حالي، فنظرت له وضحكت.

وقلت: بالتأكيد مروة حدثتك عن سبب حضوري فأنا أعرفها لن تكتم حديثنا، فضحك ونظر إلى الأبواب، وقال: نعم بالفعل هي قلقة عليك، فقلت: ولماذا تقلق أليست هي مثلي تحب وتشتاق إلى إنسان يسكن العالم الآخر تغطيه الحجب، فقال: ولكنها لاتأتي إلى المطار لانتظاره.

كانت كلماته بمثابة صفعة على وجهي، حتى أنني لم أتماسك وامتلأت عيناي بالدموع، فاعتذر وارتبك وأراد أن يخفف عني فأخذني إلى كافيتريا المطار، ذهبت معه وأنا أشعر بضعف شديد ورغبة في الاحتواء.

جلسنا معًا حوالي ساعة، كان يتحدث بشكل متواصل وأنا أنظر إليه حتىانتبه إلى حالة الشرود والحزن التي انتابتني، فسكت وساد صمت طويل، لم أفهم مشاعري حينها.. هل حزنًا على عدم تمكني  الحياة مع من أحب أم حزنًا على ضياع عمري في حب بلا أمل؟ حب هو أقرب للخيال من الواقع، وكيف أخرج من مأذقي هذا؟ كيف أقصيه عن قلبي وأنا أشعر بوجوده حولي يتخلل أنفاسي؟

خرجت من المطار فاستقبلتني أمطار خريفية خفيفة كأنها تمسح الألم عن وجهي وتخفي دموعي،أخذت سيارتي وعدت إلى المنزل أبحث عن وسادتي لعلها تحمل عني أحزاني.

سارت الأيام برتابتها لا تتغير، كلما أردت الهروب من نفسي غرقت في كلمات مي حتى تمر ساعات طويلة وكأنني انتقلت بالزمن لأعيش معاناتها مع مجتمعها، فكيف كانت سابقة عصرها؟ وكيف تعاملوا مع أفكارها المتحررة؟

مرت عليها ساعات طويلة كانت تغلق بابها فتنهار وتبكي كثيرًا، وتصرخ في صمت حتى لا يشعر أحد بانهيارها، ثم تخرج للجميع مرة أخرى صلبة مقاومة لكل العثرات، تتحدى إرادة الذكور الذين لاهم لهم سوى جعلها في الصفوف الخلفية بوأد موهبتها وإرادتها، كانت تعاني كثيرًا لتظهر هذه القوة، ولم يساندها سوى والدها وجبران، فقد كانا سندها في هذه الحياة، ولولاهما لانهارت واستسلمت.

كنت أعيش لحظات انهيارها، وأعود إلى رسائل جبران التي كانت بمثابة اليد الممدودة بالأمل والقوة لتخرجني وتخرجها من ضعفنا، بالرغم مما يعانيه هو في مهجره، وبالرغم مما يعانيه من قسوة البعد عن محبوبته مي؛ فقد كان الضوء في عتمة الحياة، كانت رسائله تعيد الأمل وتنير الظلمة.

ماهذا الحب يا جبران الذي يغلق منافذ الحياة كلها ولايترك إلا منفذك، وكأنني قد حبست في شرنقة بعيدًا عن عالمي، شرنقة من صنعك أنت، كيف فعلتها بكل هذه المسافات بيننا؟ كيف أسرت مي في الماضي وتأسرني في الحاضر برسائلك.. أتعملت السحر؟! فبدأت رسائلك بتعويذة حب جعلت كل من يقرأها يحبك، وهل نحن الضحيتان الوحيدتان أم أن هناك العديد من الضحايا في أزمنة وأمكنة مختلفة؟ فما سرك جبران، ما سر رسائلك.

جاء الشتاء ببرده القارس كانت برودته تتغلغل بأوصالي، وكلما أردت الدفء أمسكت رسائلك وكأنها الشمس تتسلل إلى روحي تعيدني إليك، إلى دفء قلبك عبر دفء كلماتك.

مر الشتاء وجاء الربيع وتوالت الفصول ومازال قلبي ينبض بحبك، وكلماتك تسري بشرياني كأنه وتر في آلة موسيقية اتقنت العزف عليه لا يعزف إلا ألحانك أنت.

نسيت الناس ونسيني الناس واكتفيت بك جبران، اكتفيت بالحياة مع طيفك لا أطلب المزيد.. وإذا افتقدني أحد وبحث عني فلن يجدني؛ لأنني الآن أعيش في الماضي، فقد تركت زينب نهائيًا وأنا الآن مي زيادة نزيلة مستشفى الأمراض النفسية والعصبية، ولم أعد أتذكر من رسائلك سوى هذه الرسالة: “قد جمعنا الحب فمن يفرقنا، وأخذنا الموت فمن يرجعنا”.

لا أدري كم مرّ من الوقت، ربما مر يوم أو شهروربما عام لم أعد اهتم بالزمن.. أصبح سفري فيه من الطقوس اليومية فأنا في لحظات أصبح مي وأعيش في الماضي في مجتمعها بقسوته وصلابتها.. في لحظات عند تناولي العقاقير أجدني أمام زينب التي تعيش في الحاضر.. وحدة قاتلة ولا تعرف كيف تخرج من هذا التمزق الذي تعانيه.

ذات مساء أبلغتني الممرضة أن هناك شخصًا جاء لزيارتي فأسرعت إلى المرآة أتزين وأنتقي أجمل ملابسي، فلم يخطر ببالي سوى أن الزائر هو جبران.

أخذتني الممرضة إلى حجرة الزيارة فوجدته أمامي يقف في مواجهة النافذة وكانت الشمس تقارب المغيب، وأضواءها الساحرة تملأ الغرفة.

ما هذا السحر الذي يلفني هل أنا أحلم، أخيرًا حدثت المعجزة وقابلته، وقفت أتأمله كان يرتدي قميصًا أزرق وبنطلونًا رماديًا، وقف متأملًا منظر الغروب، ولم يكن ينظر إلي في بادئ الأمر ثم انتبه لوجودي واستدار مبتسمًا، وجدت في عينيه حنينًا وشوقًا وفي يده دفئًا وحنانًا، وطالت لحظات سلامنا وتعانقت أيدينا، وكنت أود أن أرتمي بين أحضانه.. أعانقه.. لأذوب به؛ فشوقي له شوق زينب ومي معًا.

تمسكت بيده حتى جلسنا على أريكة مواجهة للنافذة، وأخذت أنظر إلى تساقط أشعتها الساحرة على وجهه، تمنيت أن يتوقف الزمن إلى الأبد، سألني كيف حالك؟

فأجبته: بالتأكيد سعيدة فقد تحقق الحلم.. أخبرني كيف تحديت الزمن حتى وصلت إلى هنا.. جبران هل أنت حقيقة أم أنا أهزي؟

وهنا لاحظت تغير وجهه فسألته ما بك؟ هل قلت شيئًا يعكر صفوك، فنظر قليلًا إلى الممرضة ثم عاد وابتسم وقال أنا في غاية السعادة لرؤيتك.

أخذت أقص عليه كيف أنني أستطعت السفر عبر الزمن لأعود إلى زمن مي، وأنني أحيانًا عند نظري في المرآةأرى زينب وهذا يصيبني بالحيرة، أخذ يستمع باهتمام حتى أنهت الممرضة الزيارة.

تركني وغادر وعدت إلى غرفتي أشعر بشيء عجيب في داخلي ولا أفهم ماهو.

أما هو فخرج من الغرفة وذهب إلى دكتور زكريا رئيس القسم وأخبره ماحدث، قال:

لقد تخيلت أنني جبران خليل جبران ووجدت أن من الأفضل عدم مصارحتها حتى لا تصاب بصدمة.

فأومأ دكتور زكريا برأسه قائلًا: نعم كنت أتوقع هذا، فعند تعاطيها الجرعة اليومية تعود لشخصيتها لدقائق معدودة وفي هذه الحالة تظهر عليها مظاهر الإحباط والاكتئاب، وسرعان ما تهرب ثانية إلى مي زيادة في زمنها وشوقها للقاء جبران لتعود وتعيش قصة حبهما، واليوم عندما رأتك تخيلت أنك جبران فهذا طبيعي.

رد قائلًا: وهل هناك علاج آخر في رأيك يساعدها فياسترجاع زينب؟

هناك وسيلة ربما تأتي بنجاح، فالعقاقير لم تأتِ بنتيجة فاعلة حتى الآن، وأنا أقترح أسلوبًا آخر وهو يعتمد على زياراتك لها وبخاصة لأنها تراك جبران.

وطلب منه الاستمرار في تمثيل دور جبران مع تشجيعها على كتابة مذكراتها بما أنها كاتبة في الأساس وعرضها عليه بصفته جبران الكاتب الكبير، وأراد بهذا تحفيز عقلها على الوصول إلى الحقيقة من خلال سرد يومياتها، فربما استطاعت الخروج من الشرنقة التي تحتجز بها زينب.

جاء ميعاد جرعة الدواء وكانت لا تتوقف عن الحديث عن زيارة جبران وهي تسرد أحداثًا كثيرة حدثت لمي، وتتذكر وجودها بالمطار وشوقها لرؤيته، حتى هدأت انفعالاتها تمامًا وشردت وتذكرت زينب، وتزاحمت الأسئلة في رأسها تحاول أن تفهم كيف جاء جبران من العالم الآخر لزيارتها.

كيف يتداخل العالمان وتحدث هذه المعجزة، ولكنها لبضع دقائق من الاتزان بررت هذه الزيارة بأنها محض خيال صورها عقلها المريض لشغفها وشوقها لرؤيته، وانتهت إلى أن ما مرت به حلم جميل كباقي حياتها تنتقل من حلم إلى آخر.

وفي اليوم التالي جاء الغروب وتجددت الزيارة وأحضر معه دفترًا وعدة أقلام، وجلس ينظر إلى غروب الشمس ينتظر حضورها، حتى جاءت إليه بابتسامة مشرقة وسعادة غامرة وهي تتراقص فرحًا لعودته مرة ثانية، وأمسكت بيده تريد أن تتأكد أنها لا تحلم،أعطاها الدفتر والأقلام وطلب منها أن تعاود كتابة مذكراتها ولاسيما مشاعرها تجاهه.

عادت زينب إلى غرفتها محملة بمشاعر مختلفة عن الأمس، فقد بدأت تتيقن أن ما تمر به حقيقة لا خيال، وازدادت حيرتها كلما نظرت إلى الدفتر تأكدت بأنها تعيش واقع ولكن كيف.. هذا ما لم يتقبله عقلها، وكلما حاولت الهروب من هذه الحيرة إلى شخصية مي ردتها هديته إلى الواقع.

استمرت زينب حوالي ثلاث ساعات جالسة فوق سريرها تنظر إلى الدفتر والأقلام كأنها تنظر إلى كائن خرافي خرج من فيلم خيالي، ففي عقلها تناقض ومحاولات للفهم لا تصل بها لأي شيء عقلاني حتى تعبت ونامت.

استيقظت مع شروق الشمس وفتحت عينيها على شعاع قد تسلل من النافذة إلى وجهها محاولًا إيقاظها من غفوتها، وما إن استعادت ذاكرتها حتىانتفضت باحثة عن الدفتر والأقلام فوجدتهم بجوارها على السرير، فأمسكت بهم محاولة أن تتأكد من حقيقة وجودهم وأمسكت بالقلم وكتبت بالدفتر: “أنا لا أهزي أو أحلم أنا مستيقظة وهذه حقيقة”.

وبدأت رسائل زينب إلى جبران..كانت تجلس في الحديقة لمدة ساعة صباحًا تحدق في اللاشيء، ولكن بعد أن أحضر لها الأوراق والأقلام أصبحت تبوح بكل ما تشعر به من حيرة وفرح وحزن حتى تخيلاتها التي تعيش بها.

في البداية كتبت عن مي زيادة وصالوناتها الأدبية ومعاناتها مع المجتمع، ثم تحول الأمر إلى معاناتها مع عدم إدراكها لأشياء كثيرة منها هويتها وزمانها.

أما هو فقد كان يقرأ باهتمام وهي تنظر له في شوق لمعرفة رأيه فيما تكتب، وكان دائم التحفيز لها فصارت تكتب ليل نهار ولم تعد تترك دفترها إلا حين يغلبها النوم، ومن كلماتها في رسالتها الثلاثين:

“جبران أريد أن أخبرك، الآن عندما أنظر في المرآةأرى تغير ملامحي كيف يحدث كل هذا، هل جننت أم أن هناك شيئًا قد تبدل في إدراكي.

أعلم أنني لست بكامل قواي العقلية، وأنني لست طبيعية، ولكني لا أعرف ما هي الحقيقة وماهو الخيال وكيف أكون مي وأتحول لزينب؟

وأكثر ما يخيفني هذه الأيام هو أنني في كثير من الأحيان أكون زينب ولا أستطيع الوصول إلى مي بسهولة، وأصبحت وحيدة في عالم غريب، أصبحت زينب ولكن يبقى لغز يحيرني! كيف أكون زينب وكيف تكون أنت جبران؟ كيف أتيت إلى عالمي؟ فلا عقل ولامنطق يقبل هذه الزيارة.

جبران أتمني أن ترشدني..هل أنت خارق للطبيعة أم أن عقلي مازال مريضًا، ولكن كيف تكون خيال وتأتيني بالأوراق والأقلام؟ كيف جبران خبرني؟ هل أنت شخص آخر وأنا لا أدرك من أنت”.

جاء ميعاد الزيارة ذهبت زينب وما إن رأته أمامها حتى سقطت الأوراق من يديها وتقدمت ببطء حتى لمست أناملها وجهه، قالت:

لست جبران أليس كذلك، لقد تبدلت ملامح وجهك كما تبدلت ملامح وجهي.

التقط الأوراق ووضعها بجانبه وجلس بجوارها وهو يمسك يدها وهي مازالت تنظر إليه في حيرة كبيرة تحاول أن تدرك حقيقته، وكأنها تريد أن تنسخ صورته الجديدة في رأسها حتى تبحث في ذاكرتها عن صاحب هذه الصورة.

كانت تقضي وقتها شاردة حزينة تحاول التعايش مع فكرة أنها زينب وقلبها معلق بجبران، لكن حزنها كان أكبر حين أدركت أن من يزورها ليس هو.

حاولت أن تكتب رسالة جديدة ولم تستطع لعلمها أنه ليس هو بل شخص آخر ربما تكون زيارته لها من باب الشفقة، قذفت بالأقلام والأوراق على الأرض وانفجرت في البكاء وشعرت بالوحدة كجبل من الثلج ينهار على قلبها حتى وصلت برودته إلى أطرافها.

وفي المساء جاء لزيارتها ولم تكن كعادتها تعتريها الفرحة، كانت تسير كالشبح الذي فقد أسباب حياته، عندما رآها أسرع إليها وقبل رأسها أخذت تبكي بكاءً صامتًا فرفع وجهها بيديه، وقال: لا احتمل رؤية دموعك، أنتِ صاحبة العقل الراجح والروح القوية، ومسح عنها دموعها وأجلسها بجواره.

قالت: أصبحت أعاني كثيرًا في محاولة إدراك الواقع،أذكر صديقة كانت حزينة لفقدانها زوجها وكان اسمها مروة.. ونظرت إليه وقالت في اندفاع تذكرتك أنت مراد أليس كذلك.. نعم أنت هو وكانت آخر مرة أراك في المطار يوم تقابلنا وأنا أنتظر جبران.

وأخذت تبكي وهو يمسك يديها المرتعشتين وهي تعاني الإحساس بالضياع، أخذ يهدأها حتى زالت عنها رجفتها وهدأت ثورتها وابتسمت قائلة: لقد استعدت جزءًا كبيرًا من عالمي يكفي أنني عدت إلى الحاضر وتركت الماضي بالرغم من روعته.

ومع مرور الأيام بدأت تستعيد حاضرها شيئًا فشيئًا ولكنها لم تستطع الخروج من حروف جبران، وقد كانت على يقين من أنه كتب هذه الحروف لها بالرغم من أنه لم يشاركها زمانها نفسه، كانت لاتزال غارقة في عشقه، دائمة البحث عنه وهي تعلم جيدًا أنها لن تقابله، وأن حضوره مستحيل إلا أنها كانت تستحضر طيفه فتراه جالسًا أمامها، بل أنها تشعر بدفئ يديه وحرارة أنفاسه.

عاشت زينب مخبأة في حروف جبران اتخذت من حنايا صدره مسكنًا تهرب فيه بعيدًا عن الواقع الذي أيقنت أنها لن تستطع الهرب منه، وكلما وقع بصرها على كلماته شعرت بها تخرج دافئة من شفتيه فتمنحها معطفًا يلملم أشلاءها.

وآخر ما قرأت من كلماته: “من اللازم عليك تخطي الحطام الذي يمر بك، لأن الحياة لا تقدم رسائل اعتذار وتأسف على مايجري ولا تعدك بأنها المرة الأخيرة”.

كانت للمرة الألف كلماته رسائل تبعث في روحها قوة وعزيمة فاستجابت للعلاج وأصبحت قادرة على الحياة خارج أسوار المشفى، غير أنها لم تستطع ترك جبران خلفها بل أخذته معها لايفارقها ولكن بوعي بعدم إمكانية تجسده أمامها، فهو طيف يسكن روحها وتسكن روحه.

ومضت الأيام وهي تتمسك بأقلامها وأحبارها وأوراقها التي أعطاها لها مراد، وكل يوم تجلس لتسكب في الأوراق عطر عشقها الذي تعدى أثيره الأوراق فغمر كل شيء حولها المكان والزمان، وكل من قرأ حروفها هام عشقًا بها هي حبيسه جدرانها.

وبعد خروجها بعدة أسابيع ذهبت إلى المطار ولكن هذه المرة اختلفت أسباب الزيارة، بحثت عن مراد حتى وجدته وأسرع إليها ابتسم وأمسك بيدها، وقال: أهلًا زينب سعيد جدًا بأنني رأيتك أخيرا وأعتذر عن عدم سؤالي عنك فترة مرضك فقد كنت مسافرا إلى الخارج مع زوجتي ووصلت من أيام قليلة فقط.

كانت كلماته كطلقات الرصاص في صدرها، نظرت له بدهشة، طار عقلها وهي تتسأل كيف؟ هل مازلت أهزي؟ ماذا يحدث لي؟

إن كان مراد مسافرًا ولم يزورني فمن الذي كان يزورني ويحضر لي الأوراق والأقلام، كادت أن تنهار من هول المفاجأة، إذا كان مراد مسافرًا وجبران خارج حدود الزمان فمن يكون؟ كيف يتجسد الخيال ليصبح حقيقة.

أخذت تفتش في أدراجها حتى عثرت على الدفتر والأقلام التي أتى بها، وكادت تنهار وهي تحاول أن تفهم، وكان الحل الوحيد هو العودة إلى المشفى وسؤال الممرضة عن شخصية الزائر.

ذهبت إلى المشفى، بحثت عن الممرضة فلم تجدها قررت انتظارها حتى تأتي.

جلست عدة ساعات في قاعة الانتظار غلبها النوم حتى استيقظت على صوت تعرفه ويد تلمس يدها بحنان تألفه فاستجمعت كل قواها، نظرت إليه وكل جوارحها قد تجمعت في عينيها شوقًا لرؤيته، رؤية الطيف الذي انتشلها بعد أن تاهت بين الماضي والحاضر، وأعاد لها حياتها وملامحها التي ضاعت منها في ملامح مي زيادة، نظرت له وكانت تخشى أن تعود مرة ثانية تائهة في خيالها، ولكنها حين رأته وجدته شخصًاآخر ليس جبران ولامراد، بل وجدته شخصًا ثالثًا لا تعرف عن ملامحه شيئًا هي تشعر به من احتضان يديه، من شعور الحنان الذي يغمرها من أنامله، من صوت أنفاسه التي طالما استأنست بها وأعادت الهدوء إلى روحها من رائحة عطره التي كانت تعلق بها كلما زارها.

قال لها هل أدركتي الآن من أنا؟ فنظرت إلى يديه وقالت:

-نعم أدركت، أنت طوق النجاة، الملاح الماهر الذي أعادني من الماضي للحاضر.. أنت…

وهنا قاطعهما حضور أحد العاملين قائلًا:

-أهلا دكتور جبران، كيف حالك؟ لم أرك منذ عدة أيام، فابتسم وقال: كنت في مؤتمر طبي بالخارج وقد حضرت اليوم فقط، فنظرت بدهشة بالغة وهو ينظر إليها، ويقول:

لا أدري، هل هي مصادفة أم قدر أن تأتي إلى هذه المشفي التي أعمل بها وأنتِ عاشقة لجبران وأن أتولى علاجك؟ نعم اسمي جبران تيمنًا بجبران خليل جبران، لا تسأليني كيف يحدث ذلك وهل نحن نعيش أسطورة.

أنا أحب الأدب وأكتب الشعر بالرغم من كوني طبيبًا، ولكني هنا في زمانك وإذا أردتي رؤيتي فقط اتصال بسيط من هاتفك تجديني، لن تحتاجي للهروب إلى الماضي لملاقاتي.

نظرت إليه كثيرًا وهو يجلس بجوارها حتىاطمأنت إلىأن وجوده حقيقة واقعة وليس من صنع خيالها.

ثم طلب منها أن تعود مرة ثانية لمراسلته؛ فقد تدفقت رسائلها في شرايينه كنهر جارف أزالت الحواجز بينهما.

ولكن عمله طبيبًا منعه من البوح بما يشعر، أما الآن وقد شفيت وزالت الموانع يستطيع أن يبوح لها بحبه وتعلقه بحروفها.

ابتسمت زينب عندما سمعت ما كان يحدث وهي غائبة عن الحاضر ولكنها وقعت في مأذق.

هل تبدأ رحلة جديدة مع الدكتور جبران أم تظل على وفائها لجبران خليل جبران.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى