شذرات جنون
بقلم- نايف مهدي:
اعتدت الجمود والبرود والتقوقع والانزواء، يا زنبقة بحري المسحور، ويا أوفيليا القلب التي طالت رقدتها ولم تفق، بعد أن كانت ضحكتي كيدِ الفلاح حين تغرس الحياة في شقوق الحقل الظامئة، أوبالأحرى كانت كشقشقة العصافير حين تسفّ على فساتين المرج والسهوب.
ما أشد وطأة الانتظار على مَن لا ينتظر شيئا، وما أقسى فسحة المنعرجات على مَن أضاعت قدماه وجهة المسير! صدقيني- أو إذا شئتِ لا تصدقي- أنني بت لا أعلم مقدار ما أذرع من بيدٍ وتيه وقفر وسفح خلال سحابة أيامي وغسق لياليها الباردة الموحشة، إذ إنني -كلما رفعت باصرتيّ- أجد نفسي أبدأ وأنتهي بمنضدتي المبرقعة بظلال اللاموجودات الواجمة الكئيبة تحت رذاذ المصباح الأصفر الواهن والمتشرب لخيط سيجارتي المتشابك الكثيف.
وبالرغم من ذلك التوجس والرجفة القاسية التي لا تفتأ تزلزل جسدي، فإنني لم أتهيب قط شُقّة المسافة ووعورة المسلك وخواء اللحظة مثلما تعنّ لي اليوم المسافة الشاسعة بين يدي والقلم، والأبعد منهما بل والأمعن ألمًا وفتكًا هو إقحامه بين سطور الورق ومحاولة الكتابة إليك مجددًا. حتى لو انقاد اليراع لأناملي المرتعشة، وتلقفتني رعدة الحنين العصية،فإنني لا أزيد على أن أتجرع ما سفحته لك قبلًا في دواويني المعتقة في جيابة قلبي والمبثوثة على بلاط صوامعي الآهلة بنشيد الرياح.
لربما قُيّض لنا معادٌ حبلتْ به الأيام، فانتبذتْ به ركنًا قصيًا، وانكفأت بآلامها الطوال المضنية صابرة محتجبة عن أزقة الدروب، فلما جاء مخاضها أخذت تشيّع ثمرةَ رحمها والموج فوق الموج يقذفها ويسلمها لجة القرار، في حين أن عينيها تسحان ما تسحان من شتاء البعد وقارعة الانفصال وحرقته الكاوية.. لربما تبقى لنا قبلات لم تقطف بعدُ من أفانين الشفاه، لربما يُلقى على عين أحدنا وشاح تضمخت أهدابه بشذا أنفاسنا فيرتد البصر آمنًا كأن لم يمسسه أذى، وهو قرير. لربما ستنهض جذوة قلبينا وتدحر فيالق الظلمة الحالكة ذات يوم.
ولكن أرجوك إلى أن يبلغ الرجاء منتهاه، ألا تشرقي على سماواتي الموصدة بوهج ضيائك دفعة واحدة، كيلا أخر صعقًا كحفنة من رماد تطيّرها ريح عاصف، بل وافيني كشمس الأصيل حين تضطجع خجلى خلف سواتر الجبال وبرقع الشفق، كيما تسرّح شعاعها القاني المصفرّ الودود كما يحرر نافخ الناي ترانيم ألحانه بترفق ودعة، أو كوني حلقةً في فلاة لا يُقطع كثيبها، وقد ترامت تحت ليل بهيم، لأن قلبي قد غُلّف وكُفن بلفائف الغبن ونسالات أحزان لطالما أشبعهما ملح الغياب سنين لست أحصيها ، وأنا لا أعلم، يا إشبينة البدر، أن شيئًا قابلٌ للتأجج والإحتراق أشد طيشًا ورعونة واهتياجًا مما هو الحال في إذكاء الأحزان واندلاعها المحموم الشرس.
وعند مفترق هذه الحروف وسطور تلك الدروب أرفع قلمي عن هذه الرسالة، دون مهرها بأي اسم أو تذيلها بإمضاء كاتبها، لتجد طريقها إلى سلة المهملات ممزقة بجوار أعقاب السجائر وشظايا فناجين القهوة المتخثرة حيث ترقد أنفاسي المترشحة في كل ما كتبت. دفينةٌ أخرى تضاف لمقتنياتي الضائعات، تميمةٌ حديثةٌ مَزقتْ حرزها تعويذات سحرٍ بابلي عتيد.
وبالرغم من انكساراتي المتوالدة المدوية، ورغمًا عن انسحاقاتي وذبولي الخديج لأوانه، إلا أنني خرجت من حمحمة لوعتها ونفير أبواقها الصاخبة مترقرقَ المبسم معشوشبَ القلب والجوى، لأنني استرددت شيئًا من رفاتي ونشزته وسويته ونفخت فيه قريح ما اِعتمل في صدري، وأمرت فكري بأن يسجد له في محرابه العاجي المعظم، ولأنني قد خُلقت كي أكتب تحت أي عارض يظلني وفوق أية أرض تحملني ما تلوّنت السماء.. ولكي أعيش؛ عليّ أن أعاقر الكتابة مطولًا وأتلذذ بثمالة كأسها مهما كانت غائلة أو ذات غصة وحُرقة.