تحول
قصة قصيرة- بقلم نايف مهدي:
كنتُ صبيحة هذا اليوم أقوم بجرِّ يد ابني ذي السبعة أعوام بحزم أمام العيادة النفسية، بينما كان يتشبث بإفريز الباب مالئًا الرواق ضجيجًا وانتحابا. وبين شظايا الصرخات وبرك الدموع واتتنا اختصاصية، تقوم على عكاز معدني، لدى الباب، وبعد أن تأبطت عصاها طالعت مجموعة من الأوراق بين يديها ثم أومأت برأسها للدخول.
كانت الغرقة باردة جدًا ومظلمة إلا من مصباح فلورسنت يعتلي منضدة متوسطة الارتفاع، كان ضياؤه مشوبًا بهباء الغرفة وذرات عالقة من مُعطِّرات الجو الرديئة، ومُسلطًا في الوقت ذاته على مقعد استرخاء جلدي منفرج الزاوية. أشارت إلى ابني بالجلوس على مقعد المعالَجة بينما اتخذتُ مقعدًا بجواره. تناولتْ جهاز تحكم من على تربيزة قريبة، وضغطتْ عليه فانبثقت موسيقى إيحائية من زوايا المكان، ثم غاصت الطبيبة في مقعد عال أمامنا وكأننا جُناة بحضرة قاض صارم.
جلتْ حنجرتها ثم أمسكتْ بسلسلة فضية تنتهي بساعة مدورة فسفسورية الخانات، وأمرت الصغير بأن يُتبعها عينيه أينما تأرجحت، لكن ابني ظل يشيح بوجه متواريًا خلف قبضته المضمخة بدموعه. نظرتُ إليه شزرًا وكدت انهال عليه ضربًا لولا أنه امتثل في آخر الأمر. ركزتُ نظري أنا الآخر بفضول على الأرقام الرومانية المُشعة، فبدت مع مرور الوقت تتضخم شيئًا فشيئًا حتى سدت مجال رؤيتي بالكامل، أخذ جسدي يرتعش كبندول مضطرب. شعرت بعقارب الساعة تنبض في صدغيّ بلا هوادة. تصببت عرقًا وتشبثت بأطراف المقعد.
كان الجو ثقيلًا عابقًا برائحة الغياب والرطوبة اللزجة. وكانت أصوات القرية تتناهى إلى أُذني بوضوح، وكنت أحس برذاذ مياه السواقي يرشح فوق جسدي. توالدت الصور بغزارة إلى حد أشعرني بالغُربة والضياع.
وبين غياهب التيه شعرتُ بيدٍ تجذب ذقني نحوها، فإذا بأبي مُتبلج الأسارير في ثوب مضمخ بالدماء يحمل بيده كيسًا مُترعًا بأوصال اللحم، تبسمْ وهو يناولني بسكويتي المفضل، قضمته وأنا جالس على مصطبة حجرية تحت إحدى الأشجار. مسح على رأسي فداخلني الرعب، نأيتُ ببصري بعيدًا حيث تمثلت أمي متربعة على حصيرة خضراء من القصب وهي تعجن في طست الطحين، بينما أبصرت جدتي قائمة وراءها تقلب محتويات قدر على الموقد. استعجلتني النشوة لمعانقتهما، غير أن المكان استحال أرضًا مُوحلة كما لو أنه للتو معجون بأقراص المطر.
بدت الأرض تتشربني وتدنيني بضراوة من القاع، غامت صورة أمي وجدتي وبدأت ترتفع نحو السقف المفتوح. لم أشعر بالفزع وقتذاك، بل كنت خاضعًا بسلام كغصن يجرفه تيار النهر. كنت أنزلق وأنزلق عبر أنفاق لولبية في جوف الأرض. لا أعلم كم استغرقتني تلك النوبة ولكن اتضحت أنها كالبرق حالمَا اصطدمت بالأرض فاقدًا للوعي.
شعرت بروحي تنضغط في وادٍ سحيق ووخز السيالات العصبية وهي تحتشد في أطرافي الباردة. عمّ البياض كل شيء وعندها كانت الحوائط مُجددًا تحاصرني بأفواهها المُطبقة، عرفتُ الآن أنني في غرفتي قبل ثلاثين عامًا، حيث كانت الدُمى متناثرة في الزوايا مقطوعة الرؤوس، وكانت خمسة من الأحجار متوسطة الحجم مُكومة وسط الغرفة، إذ إنني قد اعتدت حملها في جيبي قبل مغادرة المنزل. وكانت العوارض الخشبية المتداعية تسطّر السقف. غرفتي هي هي بلا أدنى شك، ولكن جدرانها بدت سداسية الاستدارة كحلقة مُحكمة، تحسست تصدعات الجص في حوائطها، كانت الشقوق تنداح نحو الأرض بشكل جنوني وتنفث سحبًا من الغبار الخانق، تداعى أحد الحيطان مرة واحدة، وولج من خلاله مُعلّمٌ عملاق هائج بلا وجه.
لم يكن أمرًا غريبًا جنون هذا المُعلم واهتياجه الشديدين ولكن الغريب كيف تسنى له أن يقتحم أبواب منزلي!
ابتدرني قبل امتلاك وعي كاملًا برشقي بألواح الطبشور التي كانت من الدقة بحيث لم تخطئ عيني ولو لمرة واحدة. كانت ارتطاماتها حارقة كأوراق القُرّاص. وكنتُ أرى ببطء استدارة الطبشور في الهواء خلف رذاذه الكلسي حتى يرتطم بوجهي كقَدرٍ لا حياد عنه. وبدلًا من أن أحتمي بيدي خلف مقذوفاته التعليمية أمسكت حجرًا ضخمًا من الكومة المجاورة وأخفيته ورائي. تندرت به كي يقترب أكثر. رأيته أصغر حجمًا مما اعتدت أن أراه في أوقات ماضية.
كنت متشوقًا لتهشيم رأسه فقط لكي أنجو. سمعت حفيف ثوبه يتواتر بسرعة، فأغمضت عيني صارخًا ونترت يدي خلفي وقبل أن ترتدَّ بانتصاري؛ دوت صفقتين سريعتين فأفقت. كانت المختصة مستندة برأسها على ذراعها الممدودة فوق مسند المقعد.
كانت تبدو منهكة بشكل كبير، وكان جسدها يرتعش من تحت المعطف الأبيض، بينما استقرت نظارتها بين قدميها. لم ترفع رأسها ولم تجب، فقط حثتني على المغادرة بحركة من إصبعها، التففت إلى ابني فإذا هو نائم بِدَعَة على قماشة الكرسي، وقد تناثر شعره فوق جبينه. شعرت بتقارب جارف بيننا، رفعته فوق كتفي دون أن أوقظه وغادرت باب العيادة بهدوء.