مَن أكون؟
بقلم- نايف مهدي:
ليس الحدث أو اختلاف المكان هما ما يحملاننا إلى دفء الشعور أو النكوص بنا نحو عالم مضاع بلا ملامح، فلمعة الأحداق المعتقة وراء غلالة الدمع، قد تفصح عن لهفة، جذل، جنون، اشتياق قاهر، وقد تنم أيضًا عن لافتة محطمة على طوار الفراق.. يا للغرابة التي تعتريني حين أقول إني ما عدت أجدني بذاك العنفوان ولا بتلك الخفة المعهودة في مواطن طالما سبقني الخيال قبل دورة القدم إليها.
فعلى سبيل الذكر لا الحصر حين تمرّ بيّ نسمات الشتاء وهي تجد لها طريقًا عبر سلاسل السماء الفضية الراقصة، وبين يديّ تقوم رزمة من الأوراق المصفوفة بعناية، بعد أن نال الهلالُ قبلته الأخيرة واضطجعَ بين سحبٍ رمادية متقاربة، أقول حين تغمرني تلك اللحظات الرقيقة فإنها جديرة باستراقة ابتسامة صافية، بإشعال شمعدان التوق في كل ركن يفيض أنينا، بالمضي قدمًا بين حلبات الرقص وعزف البيانو كأمنية مودعة في قلب طفل، غير أنني الآن أرقب خطواتي على تلك الدروب دون ظلال تسايرها، أو بالأحرى بلا جسد يعكسها، إذن من أكون!
أفأنا المنسي أو من قام بتكسير فخّار ذاكرته وسار عليها حافي القدم، أو أنا الحنين المُراق على عنقكِ وقد طال عليّ الأمد فنسيتُ، أو هل كنتُ دمعة شقية ذرفتها عيناك ذات ليلة ونسيتا! يا للجنون المطبق الذي يعتمر قلبي عندما أراني أحمل وجوهًا لا حصر لها، وجوهًا تطالعني بريبة ورهبة في كل عين ألتقيها، تحاصرني، تسائلني عمّا إذا كنت ما أزال أنا، ولكن ما مؤدى السؤال عند انتفاء الإجابة، وما جدوى الكلمة على شفاه مَن قد أضاع صوته! ورغمًا عن كل شيء فإنني أخالني لست إلا المداد المسطر قبل عشرة أعوام في رسائلي، بل إن الأمر يصل بي إلى الحد الذي أشعر معه بأني المرسل والساعي ومَن يجد تلك الرسائل مثبتة في خصاصة نافذته، من عساي أكون، وإلى أي مدى تترامى حدودي، وما لي لا أبصر سوى ريح نارية تقتحم نوافذي دفعة واحدة وتعصف فيّ!
أعتقد في آخر الأمر أني لست سوى كوكب ملفوظ يدور ويدور حول محور العدم. بل من الجلي أني لا شيء.. لا شيء حقًا إلّا الذي يحبر هذه الكلمات تحت ظلال إحساساته العميقة، وينتظر بفارغ الصبر، على طاولة الصدف، أن يلتقيني.