مقالات
أطول ليل في التاريخ
،
بقلم الشاعر الدكتورعلي جعفر العلاق
هل كان عقرب الساعة ، في تلك اللحظة، مغموساً بالدم أم بالنوم ؟ برائحة الهلاك أم قلق الترقب المر ونحن نقترب معه من الساعة الثانية والنصف من ليلة 17/1/1991 ؟ .
هل كان يدرك ، ذلك الخيط المعدني النحيل ، أن ليلتنا تلك ستطول إلى ما لا نهاية ؟ وأنه سيغرق ، أوسنغرق معاً ، في ليل لم يسبق للعراقيين أن شهدوا ليلاً مثله ؟ لقد كان ، حقاً ، أطول ليل في التاريخ : بدأ مرعباً ومدويّاً ، كزلزال كونيّ ، واستمرّ مهلكاً وكثيفاً ، كالكارثة ، حتى هذه اللحظة .
كنّا ، ومنذ ستة أشهر ، أعني منذ بداية الحصار ، معبّئين بالقلق والذبول اللذين أخذا طريقهما إلى بيوتنا ، ونشرا ظلامهما على كل شيء : الريح والمدن والأناشيد . كنّا نهرع ، وحسب تعليمات مديريّة الدفاع المدني ، إلى إعداد أنفسنا لريح هوجاء جديدة . وكأن تلك التعليمات كانت تهيّئنا لانكسار مجلجل ، أو نصر مشكوك فيه . وعلى مدى اليوم كله كنّا نتلقّى ما يرشدنا إلى ما نفعله حين تبدأ غربان الحديد المهلكة زحفها الكاسح . وهكذا كان على كل واحد منا أن يجيد التعامل مع صفّارات الانذار ، والشموع السوداء . وزجاج الشبابيك ، والأشرطة اللاصقة ، والزوايا الصلبة في الجدران .
2
إنها لمفارقة دامية حقاً . إن أجواء الموت تلك لم تكن جديدة علينا تماماً ؛ فعلى مدى عشر سنوات ، خلال الحرب مع إيران ، كان الموت من الكائنات الأليفة : يشاركنّا نومنا ، وأيامنا ، وقصائدنا . كان صديقنا البغيض ، أو ضيفنا المفروض علينا : لا نملك أن نطرده من نفوسنا المتوتّرة ، وليس لنا أن نحبّة .
وحين انتهت الحرب مع إيران ( هل انتهت حقاً ؟ ) أقبلنا على الحياة من جديد متوهّمين أن تلك الحرب هي آخر الحروب، وأن الوقت قد حان لأن يتوقّف نمـوُّ المقابر . كنّا نظن أنهم سيتركوننا نعانق الحياة بشغف حقيقي، حالمين بوطن حميم تزدهر فيه الأنهار لا السجون ، الشعر لا قسوة القلب ، وكرامة الإنسان لا خشب التوابيت .
كانت بغداد ، في تلك الليلة ، شديدة التوتّر والبهاء : توتّر الواثق من انكساره دونما ندم ، وبهاء المقبل عليه دونما تخاذل . كنت عائداً من سهرة مع بعض الأدباء العرب في فندق بابل على نهر دجلة . كان ليل بغداد مشحوناً بالترقّب والمفاجآت . وكان عامراً بالشعر والسهر وتنهّدات الماء أيضاً .
حين وصلت إلى البيت أحسست بأن الظلام يزداد كثافة ، والصمت يكاد يتشقّق عن عويل وشيك . وكنت كمن ينـزلق من حافة نعاسه العالية إلى ماء النوم حينما تطايرت شظايا النهر ، وتبعّثرت ضفّتاه . وسال على الليل دم محترق ونعاسٌ بريء . كانت السماء والأرض ترتجّان ارتجاجاً مخيفاً ، والناس يهربون مذعورين على صوت سماء تنهار ، وأرض تتناثر ، ووطن يخرج من أحلامه الكبيرة ليعود إلى رماده القديم مرة أخرى .
3
بعد أن اشتعلت بغداد، وكأنها أفق من البراكين الحمراء ، سال علينا طوفان من طيور مشؤومة . كان يخرج إلينا من كل مكان : من الصحاري ، و شقوق الليل ، والمياه السوداء . لقد هجم علينا ظلام العصور كلها دفعة واحدة . كانت الطائرات المغيرة وصواريخ كروز تهبّ علينا من جهات العالم العشر مكتسحة في طريقها كل شيء : النوم ، والجسور ، ومنتزهات الأطفال . كانوا يحرثون العراق كله حراثة سماءه ، وحضاراته ، ومياهه . لقد كانوا يصنعون ، وبهمجيّة مخجلة ، أطول ليل في التاريخ .
ما كنّا نصدّق أن ذلك الليل الممعن في عتمته وشراسته يمكن أن ينتهي ، أوأن يشهد بداية نهار جديد . وما كان لأحد منا أن يتذكّر ليلاً بهذا الطول . لقد استهدفت الموجة الأولى من القصف محطّات الطاقة الكهربائيّة ، ومراكز الاتصالات ، ومحطّات البثّ الإذاعي ومواقع التقوية لهذا البثّ . وهكذا كانت الظلمة محكمة على المستويات كافة : وضعوا البلد كله في بحر متلاطم من الظلمات ، وأعادوه إلى ما قبل عصر الضوء .
فكّر البعض في ترك بغداد ، حيث كثافة التدمير ، والاتجاه إلى المدن الصغيرة أو القرى النائية ، كانوا يظنّون أن أجنحة الموت لا تحوّم هناك . لكنّهم سرعان ما اكتشفوا أن الأمر لم يكن كذلك ، فعادوا إلى أماكن سكناهم في بغداد مرة أخرى مخلّفين وراءهم قرىً مجرّحة ، ونجوماً تنـزف. لقد أدركوا أن كل شبر من العراق كان يتلقّى حصّته من الموت والضغينة .
4
لم أكن أظنّ أن ليل بغداد سيبلغ هذه الدرجة من السواد والدمويّة في يومٍ ما . كان الواحد منّا معبأ بالظلام والذعر طوال الليل ، ولم يكن في إمكان أيّ منا أن يرى شيئاً مما يحيط به . كان الظلام يحجب عنا كل شيء : موتنا ، وأجسادنا ، وكمائن الطريق . وكان إحساسنا بالموت يبلغ منتهاه في ذلك الليل البهيم . وكأن الصواريخ والقنابل المدويّة لا تجد فرصتها في الإبادة إلا في الظلمة ، وكثافة النعاس والقلق .
وخلال تلك الليالي المرّة كنّا ، أو كان الكثير منا على الأقل ، يوزّعون أطفالهم على الملاجئ ، أو بيوت الأقرباء متوهّمين أن في استطاعتهم مراوغة ذلك الموت المعتم والمخيّم على كل شيء ، أو أنهم سيقلّلون حصّتهم من الهلاك . ولم يخطر ببال أحد منا أن تكنولوجيا الإبادة قد وصلت حدّاً من الهمجيّة لم تشهد البشريّة له مثيلاً .
كان ملجأ العامريّة واحداً من أكثر الأمثلة وحشيّة ، حيث اختلطت أشلاء الأطفال والنساء بالحديد المصهور وكتل الإسمنت . كانت أجساد الكثيرين منهم ، أوبقاياها ، ما تزال عالقة بالجدران ، والحجارة المهشّمة . لقد تحوّلت إلى بقع من الدم الأسود ، والاستغاثات المكتومة التي ما تزال مشتبكة بهواء الملجأ ، أوذاكرة الأهل حتى هذه اللحظة . ما يزال البعض منهم مجهول الاسم والملامح . لم يضمّهم قبر ، أو تابوت . كما أن البعض الآخر حمل إلى قبرة مبتوراً ، دون رأس ، أو دون تشييع ، أو دون يدين .
كان الموت في تلك الليالي الدموية القاتمة مريعاً وشاملاً ، وليس في الإمكان ذكر تلك الأمثلة الموجعة ؛ فهي كثيرة ومتنوّعة حدّ الرهبة .
5
لماذا كنّا نحس ، خلال تلك الليالي الدامية كالبراكين ، أن الموت لا يكمن لنا إلا في الظلمة ؟ لقد كان ليليّاً وغادراً إلى أبشع الحدود . كنّا معرّضين له ، في الليل ، كالطرائد المنهكة : ليس لنا إلا نومنا المنقوع بالدم والشظايا . كنّا عاجزين عن فعل أيّ شيء إلا انتظار الهلاك ، ومعايشته ، والنقمة على صنّاعة الآثمين . وهكذا كان الليل يطفح حتّى حافّاته الأخيرة ، بعوامل الموت . ذلك الهلاك البشع ، المفاجئ ، وغير المرئي، الذي كان يختبئ في كلّ قطرة من الظلام لينشب مخالبه في والهواء والأجساد العزلاء وأطراف الذاكرة .
هل كان النهار أكثر رحمة وأمناّ ؟ كنّا نحسّ أنّه كذلك ، فهو عراء ساطع وفسيح ، يمكن لنا فيه رؤية الموت أوالإفلات منه . ولذلك كان إحساسنا بالحياة يتصاعد مع قدوم الفجر وهو يطلً من علٍ على مشاهد الخراب وآثار الإبادة . ومع كلّ فجر ، كان يهنئ بعضنا بعضاً بعودتنا سالمين إلى نهارٍ جديد ، وكأننا نرى الحياة لأوّل مرّة، ونحن نصعد من أسرّتنا الموحشة كالآبار
بعض من تلك الليالي المشحونة بالخوف والترقب، ظل عالقاً بقصيدتي ” الملاذ الأخير” ، والتي غناها لاحقاً جاري الفنان علي عبد الله. كنا نسكن بيتين لا يفصل بينهما إلا عشرة أمتار من الظلام تقريباً :
أدخلي شجرَ النومِ ..
مشتعلاً سوف أكمنُ للموتِ
أطردُهُ عن غزالِ السريرْ . .
شجرُ النومِ تنهشُه الطائراتُ ..
وتجرحُ عشبَ الفضاءِ الكبيرْ..
أين يأخـذُنا الليـلُ :
للنومِ ؟
للريحِ ؟
أم للملاذِ الأخـيرْ.. ؟
6
وفي لحظات الهدوء المتقطّعة ، أعني بين موجة قصف وأخرى ، كانت بغداد ، وهي في ظلامها المهيب ، تبدو في غاية البهاء والمكابرة . ولم نكن نتصوّر ، قبل ذلك الوقت ، أن نجومها ساطعة وغزيرة إلى هذا الحدّ . كانت تبدو وكأنّها ، بتوهّجها الدمويّ هذا ، تضيء زوايا التاريخ كلّه . وفي تلك الليالي الشتويّة الملتهبة ، كثيراً ما كان النهار يتكشف عن بيوتنا منقوعة بالأمطار السوداء اللزجة ؛ فقد كان الفضاء كلّه مشبعاً برائحة المتفجّرات، ورماد المباني، ودخان الطائرات المغيرة .
كان الخراب يزداد اتساعاً ، وكانت الحياة ، في الوقت نفسه ، تنتفض بين مخالبه وكأنها في رمقها الأخير في تلك اللحظات ، كانت تُولد أكثر الأغاني شجناً ، وأشدّ القصائد إرهاصاً بما سيجيء . ورغم ذلك، كان يندفع نوعٌ من التشبّث المخيف بالحياة ، وتُولد أزهار اللوعة أوالمرح من أكثر مستويات الإبادة همجيّة ورعباً..