ورق الحائط الأصفر
ورق الحائط الأصفر، هي قصة “شارلوت بيركنز جيلمان” كاتبة أمريكية ولدت عام ١٨٦٠ و رحلت عن عالمنا عام ١٩٣٥، عرفت بكتاباتها في مجال الأدب النسوي من قصص وأشعار جعلتها لأجل قضايا المرأة في تلك الفترة.
كتبت “شارلوت” هذه القصة وهي تمر باضطرابات عقلية إثر ما بعد الولادة postpartum psychosis، والأن ننتقل إلى نص القصة من ترجمة “خالد العجماوي” …
كيف استطعت أن تستأجر لنا مثل هذا النُزُل الفخيم يا “جون”؟ كيف ظل هذا البهو الكبير، وهذه الغرف الواسعة دون ساكن كل هذه المدة؟ قصر كهذا يساوي الكثير من المال ربما، كما أنه يحتاج منك إلى حظ وفير دون شك.
أراك تنظر إلي وتسخر مني. لطالما لمحتك تنظر إليّ وأنت تضحك. كأنك تراني دعابة، أو ربما خرافة!
أيها الطبيب الحاذق “جون”. أنت لا تؤمن إلا بما تمسكه يداك، وتراه عيناك، لذلك يا عزيزي، أنت لا تؤمن بي! أنا لست بخير، وأنت لا تصدقني. ألأنك طبيب ربما؟! لو لم تكن طبيباً يا زوجي العزيز لربما كانت قد تحسنت حالتي!
تردد دوما أنني على ما يرام، وأنني لا أعاني غير عصبية زائدة، وبعض من توتر. حتى أخي يقول مثل هذا الكلام.
أتناول العقاقير، وأمتنع عن العمل، والتنزه، وعن أن أشم الهواء الطلق الذي يجول خارج الجدران. رغم أني أرى أني أحتاج إلى التغيير في حياتي الكئيبة هذه. التغيير الذي سيمنحني بعضا من المتعة التي أحتاجها.
أمارس الكتابة خلسة؛ إذ أنها تمنحني المتعة التي ذكرت. أتخيل لو أن لدي أصدقاء أقابلهم، وعملا أقوم به، وأتخيل لو كان جون يصدقني، ولو أنه يحب ما أكتب! بيد أنه يقول لا داعي لكي نستسلم لخيالاتنا، وإن واقعنا هو الملاذ الحقيقي في الحياة. سأفعل إذن وأترك الكلام عن خيالي الظامئ إلى متعة لا يراها إلا في الأحلام. ولأتكلم عن هذا النزل الفخيم.
يبدو أنها كانت حديقة غناء، بأشجار وارفة و جفنات عنب تتدلى كالثريا، والتي تفرد ظلها على الأرض الشاسعة. أقول كانت، بيد أنها صارت اليوم مكانا قفرا، قد تكسرت أشجاره فبدت كأشباح ممددة على أرض ميت!.
أذكر أني ذكرت كلمة أشباح تلك لجون ذات مساء، فبدا عليه الانزعاج، و قفل الشباك، وقال إنني أهذي. يغضبني كثيرا ذاك الرجل. يقول إنني صرت حساسة لكل كلمة، وأنني أحتاج للعقاقير كي تساعدني. أتناولها لأجلك يا جون، بيد أني أشعر وكأنها تأخذ طاقتي وروحي.
يحبني جون كثيرا. يهتم بي. طلبت منه أن نجعل غرفتنا في الطابق السفلي من هذا القصر. قلتُ إن ثمة غرفة أجمل، حيث أن بها شباك تزينه الورود، ويطل على الحديقة. لكنه رأى أن الغرفة لا تلائمنا أبدا؛ إذ أن بها شباك واحد، كما أنها صغيرة ولا تكفي شخصين. أعرف أنه يحبني، وأنه يكاد يوجه حياتي كلها لأجل مصلحتي. لقد استأجر هذا القصر لي -هكذا يؤكد- حتى أنال قسطي من الراحة والهواء الطلق! لذلك فإن جون قد فضل غرفة الطابق العلوي.
كبيرة هي غرفتي. تدخلها الشمس وتزورها النسمات الصباحية. تبدو لي كأنها كانت غرفة أطفال. نعم حيث أن الشباك قد زينته قضبانٌ حديديةٌ عريضة كي تمنع مرور رؤوسهم الصغيرة. كما أن الحائط تزينه صورٌ للُعبٍ وأجراس.
يهيج لي هذا الحائط أعصابي!
كأن ثمة يد طفل شيطان قد امتدت إليه، فمزقت فيه دون هوادة أو رحمة. يفقدني هذا الحائط التركيز. حيث تملؤه تلك الفراغات والبقع. ثمة فراغ فوق رأس السرير، كما أن ثمة بقعة كبيرة كالفم الفارغ على جانب الحائط المقابل. حائط كريه! كأن الخطوط المتعرجة فيه تنساب حينا، حتى إذا ما وجدت نفسها أمام رقعة من فراغ غرقت، وتلاشت، وكأنها تنتحر! اللون الأصفر للجدار كئيب. حتى كأنه حين يخالطه شعاع الشمس من الشباك صار حمضا من الكبريت. لا بد أن الأطفال قبلي قد كرهوا ذلك اللون في الجدار، فامتدت أياديهم عليه كي تحاول أن تنال من كآبته.
أكره هذا الجدار، وأكره هذه الغرفة، وسأكره نفسي إن عشت فيها طويلا!
مهلا. ها قد جاء جون أخيرا. سأتوقف الآن إذ أنه لا يحب أن يراني أكتب. ربما أخبيء هذه السطور في مكان ما، علني أرجع إليها في وقت قريب.
(2)
لم أكتب شيئا منذ أسبوعين. وها أنا جالسة قرب الشباك وحيدة، في هذه الغرفة الصفراء الكئيبة.
لدي الآن رغبة عارمة كي أكتب. يتركني “جون” جل النهار، وأحيانا معظم الليل. لا يدرك الرجل كم أعاني هنا. يقول إنه في الحقيقة لا سبب كي أعاني. إنه ليس التوتر وحده يا “جون”. صدقني. كنت أتمنى أن أكون مفيدة في هذا العالم. أن أقوم بواجباتي المنزلية فأكون سببا للمتعة والراحة. لا أن أكون عبئا ثقيلا. أنت لا تدرك أني أعاني حتى حين أطلب طعامي، وأعاني كي أرتدي ملابسي.
أحمد الرب كثيرا أن ماري تعتني بطفلنا. طفلنا الذي ولدته لتوي، كم أشتاق إليه يا “جون”!
قل لي، ألم تألم في حياتك قط؟ ألا تعرف معنى المعاناة؟
لايزال يسخر مني لأني أكره هذا الحائط الأصفر!
كان قد وعدني أن يغير هذا اللون، لكنه سرعان ما تغير هو، وقال إنه لا يسمح بأن تتلاعب خيالاتي بحياتنا، وأنه يجب أن نقاوم الخيالات تلك لا أن ندعها تحكم قراراتنا. يقول إنه لو بدل ذلك الأصفر لأجلي، فلربما تدعوني خيالاتي أن نبدل السرير، ثم قضبان الشباك، ولربما أطلب أن أبدل درجات السلم والباب نفسه!
قلت في توسل:
– إذن دعنا ننزل إلى الطابق الأسفل يا “جون”. ثمة غرف لطيفة هناك صدقني.
أخذني بين ذراعيه. قال إنه مستعد للمكوث في أي مكان أحبه أنا. بيد أن الغرفة الصفراء واسعة وهادئة، كما أنها تريح أعصابه. سألني:
– ألا تحبين أن أكون مرتاحا؟
حسنا..أحب الغرفة كثيرا. لكن حائطها الأصفر يستفزني!
من شباكها أستطيع أن أرى الحديقة. ظل الأشجار الممدود على أرضها الحزينة. والزهور المتعبة. على جانب منها أرى ممرات لطيفة، تمر من البيت إلى داخل الحديقة تلك.
كأنني أرى أناسا يمشون في هذه الممرات!
يحذرني جون من هذه الخيالات. يقول إنه علي ألا أستسلم لها. وألا أدع للخيال سبيلا إلى أن يقودني إلى الجنون! أحاول يا “جون”. أقسم أني أحاول.
لو أنك فقط تمنحني الحرية لكي أكتب. تخف الضغوطات من دماغي المثقلة على الورق؛ فتستريح فيّ الأفكار حينا. محبطة أنا لأنك لا تحبني أن أكتب.
يعدني “جون” أننا سندعو أصدقاءنا “هنري” و”جوليا” فور أن تستريح أعصابي، فنكون معا صحبة مرحة سعيدة في هذا القصر الكبير . ولكن فقط حين أتحسن.
يا إلهي! كأن هذا الأصفر يدرك كم يستفزني. ثمة بقعة على الحائط أرى فيها رأسا بعنق مكسور، وعينين جاحظتين ترمقاني في تحفز! تزحف تلك العيون في كل مكان. إلى أعلى وأسفل، وعلى الجانبين، ترمقني فلا تكاد تطرف.
لم أكن أعرف أن ذلك الحائط مفعم بالحياة قبلا. نعم في طفولتي كنت أجد حياة في الحوائط حين الظلام وقبل نومي. كنت أرى الطاولة تبتسم، والكرسي يدعوني صديقتي، حتى إني لو وجدت أي الأشياء يخيفني، فإني كنت سرعان ما أحتمي في ذلك الصديق الذي يحبني.
لكني لا أحس بالألفة تجاه الأثاث في هذه الغرفة الصفراء.
يبدو أن الأطفال الذين سكنوها كانوا مثابرين على الكراهية.
فقد خدشوا أرض الغرفة وقشروها، حتى السرير الوحيد بدا وكأنه قد عانى ويلات حرب قديمة. كل هذا لا يهم. فقط هذا الحائط الأصفر!
أسمع وقع خطوات أعرفها. إنها أخت “جون”. فتاة كريهة، بالرغم من كونها مديرة منزل جيدة. يجب ألا تعرف أني أكتب، وإلا أخبرت أخاها. تقول إن فعل الكتابة هو ما يدفعني للجنون. الساقطة!
سأكتب إذن حين تخرج، حين أراها تجول بعيدا في تلكم الممرات البعيدة، والتي تمتد من منظور الشبابيك المتناثرة في أرجاء القصر، حيث الشجيرات، والمروج.
أتأمل هذا الحائط الأصفر وأتساءل: ما سر تلك الظلال الهائمة التي أراها تحوم عليه وتحوطني من كل جانب؟
أسمع وقع خطوات تقترب.
(3)
انقضى يوم الرابع من يوليو، وذهب الجميع.
كنا قد استضفنا والدتي، و”نيللي” وأولادها أسبوعا. “جيني” هي من استضافتهم في الحقيقة. أنا لم أقم بأي شيء يذكر.
لم يعد لدي رغبة حتى في تحريك يدي. صرت عبوس ومتجهمة طوال الوقت. صرت أبكي دوما، لسبب وبدون سبب. ولكن يحدث ذلك غالبا حينما أكون وحيدة.
وللعلم، أنا وحيدة الآن.
أسير أحيانا في تلك الممرات التي تؤدي إلى حديقة القصر كي أتنسم بعض الورود. بيد أني في الأخير أرجع إلى غرفتي. صرت مغرمة بها! حتى مع وجود الحوائط الصفراء.
في الحقيقة صار الورق الأصفر يسكنني!
أستلقي على هذا السرير المثبت بالمسامير، وأبدأ في أن أتابع هذه النقوش على الجدار. تتحرك كبهلوان! أقسم على هذا!
أبدأ من ذلك الركن في الأسفل، وأقرر أن أتابع ذاك النقش حتى النهاية. أعرف بعض مبادئ التصميم الفني، لذلك فإنني أعلم أنه لا يتبع في تصميمه أي نوع من الفن، أو السيميترية.
إنه يتكرر فقط بالاتساع. تبدو الانحناءات في النقوش كأمواج تتهادى وتتلاطم. تتقاطع في الأخير مخلفة أشكالا من الرعب البصري المقيت. وكأن ثمة أعشاب بحرية تستخدم الإفريز وهي تطارد بعضها بعضا.
لست أدري لم أكتب هذا! إذا رأى “جون” هذه السطور فإنه سيغضب، وسيدعوها سخافة. بيد أني أريد أن أكتب ما أحس به. أرتاح بعدها. وإن كان ما أبذله من جهد صار أكبر من هذه الراحة التي أنشدها.
صرت كسولة جدا. امرأة ممددة على فراشها طوال اليوم.
يقول “جون” إنه علي أن أقاوم. كما يساعدني بالكثير من العقاقير، واللحم والنبيذ.
“جون” المسكين.. كم يحبني!
حاورته بخصوص رغبتي في الخروج، وأن أرى الناس، وأن أزور مثلا أقاربي “هنري” و”جوليا”، لكنه رأى أنني لست مستعدة بعد؛ إذ إن مشاعري لا تزال مضطربة. قال إنه وجد في مقلتي دموعا وفي صوتي رعشة. حملني وقتها بين ذراعيه إلى الطابق الأعلى، ووضعني على فراشي، وشرع يقرأ لي.
قال إني حبيبته. وقال إني سعده و هناؤه، وكل ما يريد في هذا العالم. لذلك فإنه لزاما علي أن أعتني بنفسي، ليس لأجلي فقط، بل لأجله كذلك.
نظرت إلى الورق الأصفر. تذكرت ابننا. أحمد الله أنه لا يعيش في هذه الغرفة الكئيبة. أتعرف يا “جون”؟ جيد أنك تصر على أن أسكنها، وإلا لأصبحت غرفة ابني المسكين. جيد إذا أنه قد هرب، ولا يهم ما أكابده أنا فيها طالما أن ابني بعيد.
داخل هذا الورق أشياء لا أحد يعلمها. خلف هذا الأصفر تقبع خيالات مظلمة.
يا إلهي. ثمة امرأة تنظر إلي وهي تزحف خلف هذا الحائط. أرجوك يا “جون”. تعال وأنقذني من هذه الغرفة اللعينة!
وللقصة باقية انتظرونا في حلقات أخرى …