انسكابات باهتة
بقلم- نايف مهدي:
لم يدر بذهني أن القلم مع انهمار الأيام تتقيد خطوته ويغدو متزمتًا كشيخ وقور تصده نفسه عن انطلاقات الصبا؛ إلا حينما نسنس خاطر عتيق.. كنت في غماره معتادًا أن أضع قلمي وراء أذني؛ تحسبًا لأي نزال ثقافي عارض، كنت آنذاك أجوب أروقة المحادثات مفتشًا عن أقلام تجالدني أو بالأحرى أرمقها مزهوًا حين تقف عاجزة عن مقارعتي، كنت أشعر حينها برشق “الدوبامين” يغمر جسدي.
كنت أشعر حتى باتساع أحداقي، كانت الأحرف تثملني تنشر النشوة في زوايا مخيلتي، وكانت تلك الخيالات المقدسة لاتبارحني بل حتى إنها لتسبقني لمخدعي، فأستلقي على فراشي باسمًا أذود عن جفنيّ القريحين خيلَ المنام المغيرة، متوسدًا يديّ متلذذًا بخفة ريشتي التي لا تني تنقض على أخصامها تباعًا وتظل وحيدة مختالة تحبر الأوراق بلا انقطاع حتى الرمق الأخير ، لا.. لا.. أقصد (رمقهم الأخير، رمقهم القصير)، مهما تجلدوا فإنها مسألة دقائق! مسألة دقائق وحسب.
الآن، فقط بدأت أدرك أننا والأقلام بذرتان نخرج من ثمرةٍ واحدة أجل، نحن متشابهان، بل نحن “سيان”، نعم، وإ ني لأصدقك القول يا صاح ولا أكتمك حديثًا، أما ترى أن للأقلام آجالًا وأعمارا! وأنها تصرّ وتئن مع اندفاق الحبر من أفواهها المزمومة!
وأنها إذا ما عُمرت هبط عليها الوقار ورأيتها تتهيب ناعم الكلم وتستثقله.
إنها تمامًا كبني البشر حين تنقطع ألسنتهم عن الأحاديث المنمقة اتفاقًا مع احتداب ظهورهم وخفوت أبصارهم واشتعال الشيب في رؤوسهم!.
إن هذا التصوف الثقافي المتثاقل الخطو لشد ما يقلقني ويذرني راسفًا في أغلال شعور فقدتُ لذته. فقدتُ كنهه وجهلت النشوة القابعة في ظلاله.
آه، لهذا الخريف المشاعري الذي يترصد لنا ويفصلنا عنوة عما مضى! آه لصفعات الضمير وتبكيته الدائمتين، أما تسأم الأيام من انتهارنا وإحجامنا عن الالتفاتة إلى ما تساقطه من آماسٍ ظللنا نتفيأ بدوحها ونعلّقُ ضحكاتنا في سخب سويعاتها؟!
أما تعلم بأننا نملك في تلك الآماس حقًا مستلبًا!، لكم أطلتْ أصائلها على لثم الشفاه بالشفاه وامتزاج الأعطار بالأجساد، ولكم ابتدرنا نجمها هابطًا بشعاعه يرقق قسماتنا في صورة الأحداق.. وانكفأ البدر مُحاقًا خجلًا لدى إلفائنا أديم السماء.
وفي النهاية، حشد غفير من الذكريات يلوح بصورة شبه معتمة، يئن خلف ألف لون ضبابي، يفد عبر بسمة قطعتْ أميالًا من الأيام تحرك أرواحنا خلسة وترقرق عبراتنا على ارتعاشة الشفاه.