إبداعات

الرجل الطويل

بقلم- عادل خزام، الإمارات:
الرجلُ الطويل الواقف على ناصية الطريق، ظنناهُ عمود إنارة، والمرأة التي لبست باروكة الورد، ظنناها مزهرية متحركة، كنا مجرّد أطفال آنذاك والحياةُ لا تبخل علينا بالصور الغريبة والمشاهد السحرية الرائعة.
كنا نركض في الطريق باتجاه البحر نطارد النوارس السابحة في الزرقة، فهل كانت النوارسُ طائراتنا الورقية الأولى؟، هل كان البحر شاشة المطلق البعيد؟، وأذكر صديقي “أحمد” كان يركل الموجة مثل كرةٍ ليعيدها للماء، لكنها تتكسر عند قدميه، و هو الذي جلب يوماً عصاً من الخيزران، وراح يجلدُ الموجة على ظهرها لأنها كادت أن تُغرقه.
وأذكر أيضاً صديقي “راشد” الذي يعشق التدحرج على التلال الرملية، متقلباً مثل جذع شجرة صغير من أعلاها وصولاً للسفح عند أقدامنا، فهو الذي كان يحلم أن يزوّج البحر بالصحراء، ورسم في دفاتره نصف الماء أصفر، ونصف الرمل أزرق والشمس والقمر فوقهما متعانقان.
اليوم، أقرأ هذه المشاهد مرة أخرى في قصائد من بلدانٍ بعيدة، هي الصور نفسها تتكرر في الخيال المجنّحٍ للشعراء الذين تخطفهم روح الانجذاب إلى ما هو غير عادي، فتنوب المخيلة لرسم عالمٍ أشد سحراً مما نراه. يكتب شاعر ما عن الرجل الواقف على ناصية الطريق بشعره الأكش، ويشبهه بعود كبريت طويل. وتكتب شاعرةٌ مشحونة بالعاطفة عن الحب باعتباره أرجوحةً معلقةً بين جبلين عظيمين.
وستظل القصص تُروى عن بحّارةٍ هزموا الخوف ولم ترعبهم عيون العاصفة، وما بين الواقع وعالم المخيلة يسرحُ الشعراء في بريّة بكر لابتداع الصور المستحيلة وجلبها لنا، وأحياناً تختلطُ في القصيدة الأشياء والكلمات والإشارات، فيصبح ما نقرأه مثل النظر في صندوق سحري تتدخل في عوالمه الألوان والأشكال التي تغور عميقاً في النفس، وتثير لذة الحواس.
الرجل الطويل هذا، قرأت عنه يوماً في قصةٍ حين وجدوه ميتاً على الشاطئ واعتبروه أجمل غريقٍ في العالم. وسمعت أمّهات يتفاخرن بأنه سيكون زوجاً مثالياً لبناتهن، وأدركتُ بالتخمين أن رجلاً مثل هذا سيكون صديق الأشجار الطويلة، يتغذى من الثمار التي لا يصل إليها أحد. ولو مدّ يده عالياً لقطف القمر من السماء ووضعه في جيبه. ولو مد ساقه لعبر المحيط في خطوة واحدة.
ترى، ماذا سيحدث للرجل الطويل إذا وقع في الحب، وصار عليه أن يدخل في قفصه الصغير، قانعاً بأن الكون كله لا يساوي لحظة ضياع في عينٍ حرّةٍ لامرأة تعشقه، وترى فيه قمر الأيام الآتية؟.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى