غرفة السيدة لبنى
قصة قصيرة بقلم – أسامة سليمان:
هذا الصباح لم يكن كسابقيه … في رأسي منذ مطلعه دندنة لذكريات على أوتار بالية تعزف مقطوعة حزينة في ثنايا سيمفونية تائهة تحاكي مشاعر الغريب الذي سرت أنا والبلاد البعيدة التي كانت ذات يوم وطنا صار يفصلني عنها نهر وبحر ومحيط وجبال .. تذكرت ايام غربتي ..
ذات صباح كنت احتسي فنجان قهوتي وعلى أنفاس سجائري التي عدت اليها بعد افتراق طويل .. طرقت دقات غريبة جدران قلبي .. ناشدني الجسد الذي يحملني بحاجته الى راحة ربما يستطيع بعدها أن يكمل المسيرة معي .. في طريقنا الى المنتجع الذي اخترت كانت الذكريات التي تركتها في الزمن البعيد تلاحقني ، كان الدليل الذي استقبلنا بابتسامة واسعة في الانتظار .. أعطاني منشفة زرقاء طوقت بها عنقي واخرى تأبطها ذراعي ، انقدت خلفه في ثنايا البناء الفندقي الفاخر .. انتهينا آخره الى الجرف المطل على الساحل .. الشمس وكأنها تغرق حتى المنتصف في العين الحمئة ، بقايا سحب بيضاء راحلة من الافق تنهل ورائها من الخيال تصاوير لا تقاوم .. الأصيل بسمائه الحمراء .. زرقة البحر المختلط بسواد الليل .. كان الجرف ممهدا بعناية تحيط حوافه صنوف من أشجار بديعة التنسيق قابعة على نجيلة خضراء على امتداد البصر.
أمام غرفة خشبية دقيقة الصنعة توقف .. طرق الدليل بابها ، واستقبلتنا الصاحبة بوجه ودود … شدني وشم متعدد الألوان الرائعة نائما على ذراعها وهي تقدم يدها للمصافحة ، كانت ترتدي بلوزة بـ اللون الروز الخفيف وبنطال من الجينز الأزرق .. افسد هذا التنسيق البديع جسدها المكتنز قليلا .. على الأضواء الخافتة رأيت بشرتها بيضاء مشرئبة بحمرة .. غطت نظارتها السميكة لون عيناها ، دلفت الى الغرفة القابعة في الدفء وانصرف الدليل ، كانت ستائر الشباك الوحيد بالغرفة تعارك أي ضوء يتسلل اليها لتعطي الساكنين شئ من الخصوصية ، نزعت ملابسي كما طلبت واستبقيت على جسدي رداء البحر، استلقيت على الأريكة التي تشغل الحيز الأيمن من الغرفة .. طوعت لها نفسي ، وراحت أناملها البضة تستبيح ظهري .. كانت تستشف مواطن الداء وعندها تتوقف ثم تعاود المرور عليها مرة تلو مرة وكأنها تداعب الألم حتى ينزوي .. انتهيت الى غفوة لا تذكر عادوت بعدها وعيي .
لبنى هكذا عرفت نفسها ، أصبحت الألفة حاضرة وكأننا نعرف بعضنا من زمن بعيد ، صرت أناديها باسمها كصاحب وسألتها أن تحكي من البداية كيف انتهى بها المطاف الى هذا المنتجع ، وكأنها شهرزاد انساب على لسانها أطراف الحكاية : انتظرت طويلاَ .. الغريب الذي كما أنت .. ربما يمنحني الحلم الذي ظل يراودني سأفك غلالة صدري دون أن يطلبها وسأبوح بالجرح الذي لم يلتم أبداً .. بجوارحي المحبوسة في هذا المكان : في الثغر حيث موطني ذات ليلة على وقع خطى ضالة نحو جسده أعددت لنا متكأً حالمة أن نعود في أمسيتنا المتعبة الى عواطفنا التي خمدت .. الى النشوة التي ذابت في تداعيات الحياة .. كان وجهه حزيناً غارقاً في يأس مرير يئن تحت وطأة الحاجة .. وهبت له ما أستطيع دون جدوى .. ذكرت له من الكتاب أية العسر واليسران ، ومن الأمثال التي نحفظها النار التي باتت وأصبحت رماد .. صار الرجل اسماً مستسلماً الى لا شئ والفعل انتهي منذ هذه الليلة ، تركت ابنتي ذات الربيعين لدى أمي ، وخوفاً من أن أصير سلعة تستبيحها نزوات الطامعين كان المنتجع هو المكان المناسب لعزلة آمنة ، لم أرى عيناها .. كان صوتها المخنوق يشفق عليها خوفاً من الاندثار في ثنايا العبرات .. أهتاج صوتها فجاءة وتشنجت أناملها البضة ، وكأنها غصن يابس .. أحست بتوتري وسألتني ان كنت احتاج الى شراب .
كنت انصت لها وأنا ابحث ولمرة أخيرة عن ضآلتي في هذا الجسد المنهك .. لما انتهينا كانت غربتها تذوب في غربتي .. وجه ابنتها ذات الربيعين .. شيخوخة أمها .. العيد الذي حان موعده ووجه أمي يطوف بمخيلتي .
في ليل تالي بعيد .. في برد الليل الذي ترتجف له الأبدان، والشتاء الذي عاد يغزو المدينة الساحرة من جديد .. انهالت الامطار التي لا تعرف من أي اتجاه تأتيك تدفعني لان احتمي بشئ استتر به .. كانت مظلة لمحل يبيع الملابس بشارع النبي دانيال وأنا المنتشي برحلة في ربوع الثغر العتيق هي طوق النجاة لي وانا اتامل زوايا المكان لمحت مانيكان بفترينة العرض يرتدي ما كانت ترتديه ، بلوزة بـ اللون الروز الخفيف ، وبنطال من الجينز الازرق في تناسق بديع وكانه يراقب المارة ، وحين صرت مشدوها اليه دون غيري ، وكأنه يخاطبني .. لبنى الأ تتذكرني ؟