فلسطين التى ستجىء
بقلم – الشاعر الدكتور حسن طلب، مصر:
لم أستطع الوفاء بما وعدت به بعض الأصدقاء الصحافيين من الرد على أسئلتهم حول القضايا والأحداث وآخرها جوائز الدولة؛ فأرجو أن يسامحونى؛ أما من عن رأيى فى مقال “سليم بركات عن محمود درويش” الذى أثار ما أثاره؛ فليس لى من تعليق سوى أنه مجرد ضجيج فارغ أو قعقعة بلا طحن؛ هى مقالة بلا مبرر، وبلا قيمة، وبلا فائدة، اللهم إلا ما يعود على صاحبها من أضواء.
كانت تربطنى علاقة إنسانية طيبة بمحمود درويش؛ وقد زارنى غير مرة فى بيتى بالدقى كان آخرها 1993 بصحبة أحمد عبد المعطى حجازى وجابر عصفور.
و كتبت قصيدة مهداة إلى روحه عقب رحيله 2008 ونشرتها فى مجلة الهلال؛ بعنوان: فلسطين التى ستجىء، وهنا نصها:-
لا.. هذه ليست زبرجدةً..
ولكن سيرة صغرى
لسقوطِ هذا القلبِ فى مستنقعٍ.. وعبورِهِ البحرا
من غير أن يبتلَّ.. أو يعتلَّ.. أو يَعرَى!
*** ***
نبكِى فلسطينَ الحقيبةَ..
أم فلسطين السكَنْ؟
لا.. بل فلسطين الوطنْ!
*** ***
كلُّ الدَّلائلْ
كانتْ تُشيرُ إلى خِلافٍ ما سيَنشَبُ بينَ مَنْدُوبِى القَبائلْ
وتَكلَّمَ المُتكلِّمونْ:
حوْلَ اصْطِلاحِ (الأُمَّةِ العَربيَّةِ) احتدَمَ النِّقاشُ:
فقالَ زيْدٌ: ما القُمَاشُ؟
أجابَهُ عَمْرٌو: خُيوطٌ مِن نَسيجٍ.. لُحْمةٌ وسَدًى
فقالَ: صدَقْتَ.. لكنْ كيفَ ضاعَ قُماشُ رايتِنا سُدًى!
ومَنِ الذى نَقَضَ النَّسيجَ؟
وسلَّطَ القوْمَ الدُّعاةَ مع الرُّعاةِ.. على العُراةِ
مِنَ المُحيطِ إلى الخَليجِ!
*** ***
نَبكِى فلسطينَ الزرافةَ..
أمْ فلسطينَ الأسَدْ؟
لا.. بل فلسطينُ الجسَدْ
*** ***
كنَّا اتَّفقْنا حوْلَ تَعريفِ الدَّمِ العربىِّ..
قُـلنا: إنَّهُ شىءٌ نَظيفٌ.. طازَجٌ.. لَـزِجٌ.. كَثـِيفٌ
أحمَرٌ- كالورْدِ- سائلْ!
ثُم اختلَفْنا حوْلَ مَفهومِ الجَمالِ الأُنثَوِىِّ..
وفجأةً طلَعَتْ علينا كالهِلالِ.. فلمْ تدَعْ قولًا لِقائلْ!
فصَحوْتُ مِن صمْتِى..
هتفْتُ بها: اتبَعِينى يا ابنَةَ المُتفَيْهِقِينَ..
الآنَ يَنقُصُنا وِصالٌ أوَّلانِىٌّ.. وِصَالٌ غيْرُ شَرْعِىٍّ
لِنُصبِحَ فى مَبادِئِنا
ويَنقُصُنا نَبِيذٌ عَسْقلانِىٌّ لِتَنضبِطَ المَسائلْ!
*** ***
نبكى فلسطين الحقيقةَ..
أم فلسطين الخيالْ؟
لا.. بل فلسطين السؤالْ!
*** ***
وتَكلَّمَ المُتكلِّمونْ
قالَ الفِلَسطينِىُّ: لمْ أَفهَمْ سِوَى لُغةٍ يُكلِّمُنِى بها جُرحِى
فكُفُّوا الآنَ عنْ نُصْحِى!
واسْتأنَفَ المِصرِىُّ: كلَّا
ليسَ يُشبِعُنى رغيفٌ ليسَ مِن قَمْحِى!
والواعِظُ السُّنِّىُّ قالَ: ستَطلُبونَ الصُّلحَ
لكنْ لنْ يصِحَّ سِوَى الذى قد شاءَ ربُّكَ أنْ يَصِحَّ..
غدًا تَتكلَّمُ الأحْجارُ بالعَربيَّةِ الفُصحَى
لِتُرشِدَ عنْ يَهُودِىٍّ تَخبَّأَ خَلْفَ جَنْدلِها!
فتَنحنَحَ البَدوِىُّ.. بَسْمَلَ ثُم حَوْقلَ ثُم قالَ:
إذا استَطاعَ الباءَةَ المُتأَهِّلُونَ..
فزَوِّجُوا سِفْرَ القُضاةِ بسُورةِ الفتْحِ!
قالَ المُتيَّمُ: هؤلاءِ القومُ ليسَ يَلِيقُ ليْلُهُمُ بِصُـبْحِى!
*** ***
نبكى فلسطين القصيدةَ؟
أم فلسطين السرابْ؟
لا.. بل فلسطين الترابْ!
*** ***
وهنا ابتَسمْتُ لهمْ جَميعًا
ثُم إنِّى فى- هُدوءٍ قاتلٍ- ودَّعْتُهمْ
قلتُ: السَّلامُ عليْكُمُ..
الآنَ اسمَحُوا لِى بانْصِرافِى
قبلَ أنْ تَتآكلَ الأرضُ التى تَقِفونَ فوقَ تُرابِها
ويَضِيقُ باطِنُها عنِ المَوْتَى
وتَزدادَ الجَريمةُ عن مُعَدِّلِها!
*** *** ***
لا.. هذه ليسَتْ زَبرجَدَةً
لكنَّها مَنحَتْ دَمِى حقَّ اللُّجوءِ..
فمِنْ فِلسطينَ التى ذهبَتْ
مَضيْتُ إلى فِلسطينَ التى ستَجِىءُ!
فاخلُبْ لُبَّ غيْرِى أيُّها الشِّعرُ الحَداثِىُّ الأنِيقُ!
وخَلِّ ماءَكَ راكِدًا فى ما وراءِ النَّصِّ
حتّى لا يُراقَ.. إذا أُرِيقْ!
ودَعِ الحِجارةَ لِى
لِأرمِىَ فى غدٍ- مِن عُمقِ مَقبرَتِى-
مُجنزَرَةَ العَدوِّ بها
وخُذِ هذا العَقيقْ!