سي عبد اللطيف
قصة – سمير الفيل:
جلست وبيدها ابنها عاشور ، الطفل بسنواته السبع، بالقرب من مقبرة زوجها عبداللطيف ، المكان موحش فهو ليس الخميس الموعد المعروف للزيارات ، وليس موسم عيد الفطر، أوعيد الأضحى.
منذ الصباح ألح عليها خاطر أنها منكسرة ووحيدة ؛ فأخذت يد طفلها ، وجرت به إلى هذا المكان الذي يلفه هدوء، تأملت العناكب التي تنسج خيوطها الترابية، ثم تسير عليها في طمأنينة وتمرس ، تصطاد الحشرات القريبة بكل روية ، غارقة في صمت المكان.
منذ مات عبداللطيف ، وهي تعمل في بيوت الأغنياء بالمدينة ، تغسل وتمسح وترتب وتشيل ذرات التراب عن واجهات المنازل ، وتعود لبيتها بما فيه النصيب.
لم يكن زوجها كسيبا ، فقبل أن يصاب بداء الصدر، كان نجارا باليومية في ورشة أثاث بحارة البركة ، أجره الأسبوعي يكفي بالكاد لمصاريف البيت بعد خصم ثمن الكيف.
الكيف هو الحشيش ، وكان يلفه في ورقة سلوفان ، ويضعه بعناية شديدة في ثنيات كم القميص بعد أن يطويه عدة طيات،أثناء عمله يرسل الصبي في طلب فناجين الشاي والقهوة ، ويده تمتد؛لتطمئن على الكنز الغالي الذي يدخره لمساء يوم الخميس .
كانت فريدة مستورة بكل معنى الكلمة ، فهي تتمكن من تجهيز بيتها بطعام يناسب المصروف القليل، بالتفنن في طهي أصناف لا تخطر على بال أحد، مثل الكوسة ، والباذنجان ، والبطاطس، حتى أن زوجها اسماها ” وزيرة الاقتصاد ” ، وهي المحظوظة برجل في مثل طيبته وسماحة نفسه أسمته ” سي عبداللطيف” ، ولم تكن لتناديه باسمه مجردا .
حين يسعل ، وبعد أن يهدأ صدره ، يأخذ يدها ، ويقبلها، ثم يضعها فوق رأسه قبل أن ينزل السلم، ويتقاسمان العبارة المعهودة ، تهمس وهو في أول بسطة من السلم: ” لا إله إلا الله “، فيرد عليها: ” محمد رسول الله” . في المرة الأخيرة تأخر في قول العبارة المبروكة ، فقالتها بدلا منه ، في حين خرج صوته متحشرجا ، فلم يصل إليها غير همهمات .
في الورشة اشتد عليه الداء ، سعل فارتج صدره ، وبصق الدم غامقا ، فحمله زملاؤه في الورشة المجاورة، وصعدوا به إلى البيت. لم يكن المعلم نذلاً ؛ فقد أرسل لأسبوع كامل كافة شئون المطبخ: الأرز ، والزيت ، و السمك المشوي ، والدجاجة المريشة ، ونصف كيلو اللحم البقري ، في اليوم الثامن لم يصل للبيت شيء .
تركته ممددا على فراشه، وذهبت للشغل، لم تخبر أحدا بمرض زوجها ، هي فقط ” الظروف” ، ومن منا ليست له ظروفه، الغني والفقير ، القريب والبعيد، الرجل والمرأة.
لم تشعره بأن أي شيء قد تغير ، فهي ذاهبة لأقارب لها تعودهم ، وهو يأخذ الدواء في مواعيده ، وحينما تعود، تخفي ما أحضرته على حافة الشباك المطل على الدرابزين ، ثم تطبخ متأخرة بعض الشيء ، وهو يدعو للمعلم الوفي بالصحة وطول العمر، معتقدا أنه قد وقف معه في أزمته.
لم يعد يمكنه الذهاب إلى الورشة، فما بالك بالمقهى ، ورغم سعاله، وضيق نفسه، وتغضن وجهه ، فقد طلب منها “قرش حشيش “ربما يشد عوده ، ردت عليه مستعطفة : ” بلاش” .
فاشتد سعاله كطفل حرون ، وعدته أن تأتي له بالمطلوب في ظهيرة اليوم التالي ، وقد أغمض عينيه يستريح ، يدعو لها براحة البال ، وهي المنكوبة بمرض زوجها ، حملت عاشورا ، ومددته على الوسادة ، بعد أن وضعت قطعة قماش تحت رأس الصغير.
سبحان الحي الدايم ، لقد حصلت على أجرها ، وسألت عن ” العصفوري ” بائع الحشيش ، ولما اهتدت إليه ، وأخبرته بطلبها ، أكرمها ؛ فباع لها الصنف المعتبر بنصف الثمن ، لأن الناس لبعضهم البعض ؛ ولأن التخفيف عنالمريض واجب ، وعدل المزاج حلال.
ذهبت إلى البيت منشرحة الصدر ، وقلقت على رجلها حين رأته ساكنا ، لعب الفأر في عبها ، ظنته ميتا ، قلبته ، فوجدته يفتح عينيه بصعوبة : ” جبت المطلوب”؟
مدت يدها بقطعة الحشيش ملفوفة في ورقة السلوفان ، بصعوبة أخرجها ، بحجم فص الثوم ، دعكها بإصبعيه السبابة والإبهام ، وشمها فردت فيه الروح.
خرجت لتقترض من المقهى القريب جوزة، وماشة، وبعض قطع الفحم ، وراح يدربها على طريقة إعداد الكيف ، وساعدته في الجلوس على طرف السرير؛ لتتمكن يده المرتعشة من إمساك الغابة المجوفة، والتي يتسلل منها الدخان ، ” يا سلام .. يا سلام لم”، راح يشد أنفاسه ، ويخرجها بصعوبة، فيتشكل جو الحجرة بسحائب دخان لها رائحة نفاذة.
اشتد السعال ، فخطفت من يده الجوزة ، وصرخت فيه لأول مرة في حياتها :” كفاية عليك”، لم يتمكن من المقاومة ، تفصد العرق على جبينه ، ومال برأسه ، ومات.
لم تشعر بأنها قد شاركت في إنهاء حياته ، تعتقد أنها لبت رغبته الأخيرة ، فهو رغم فقره لم يمد يده عليها يوما ، ولم يحرمها من كلمة ” أم العيال”، رغم أن عندهما طفل واحد هو عاشور.
سرحت بخاطرها ، وانحدرت دمعة يتيمة على خدها ، مسحتها بسرعة ،لم يكن بها رغبة للصراخ ، ستقول النسوة عنها إنها بلا أصل لو لم تصرخ ، وتملأ الحارة ضجيجا وهيجانا، تمنعت قليلا ثم واصلت الصراخ ، والولد يحملق فيها بلا فهم ، لكنه حين رأى نظرة الأب، وعينيه المفتوحتين أدرك أن أمرا جليلا قد حدث .
شهور مضت وهي تشقى في بيوت الناس بكل أدب واحترام ، في صباح أمس امتدت يد تتحسس صدرها، فيما هي منهمكة في تنفيض ستائر بيت تاجر المانيفاتورة، خرجت زوجته لزيارة جيران لها ، وهو فتح الباب بمفتاحه، وتقدم منها ، وفعل فعلته النكراء بطيش لا يليق بسنه .
كان عبداللطيف قد حضر في هذه اللحظة ،فأنقذها بأن جعلها تتراجع خطوتين ، ثم تكشر عن أنيابها وتخمش وجه الرجل، والتاجر خشي الفضيحة ، فدس في يدها عشر جنيهات كاملة وانصرف، رمتها في الصالة وارتدت جلبابها الأسود ، ومضت إلى حال سبيلها .
لم تكن لتخرب البيوت العامرة ، كل ما سوف تفعله أن تمتنع عن الخدمة في هذا البيت بالذات ، وقد نذرت أن تزور زوجها ، وتأتي بطبق فول نابت؛ لتعطي الفقراء حشو أرغفة .
لم يأت أحد للقرافة، ماعدا صبية راحوا يدخنون البانجو وراء الشواهد ، فظلت تنظر للطبق ، وتراقبالعناكب الغادرة ، وتمد يدها؛ لتخاطب رجلا بسيطا أحبته ، لم تقلها له في حياته، فلتقلها الآن عله يسمعها : ” وحشتني قوي يا سي عبداللطيف”.