قراءة- حياة الرايس، روائية و شاعرة من تونس:
” باسم الام و الابن ” لطالما استوقفني هذا العنوان رغم انه صدر في ديوانه الذي يحمل نفس اسم القصيد منذ سنة 1999 و القصائد لا تبلى و لا تموت بالتقادم خاصة اذا كانت محمّلة بالرموز و الأسئلة و القراءات الجديدة. جذب انتباهي و تعلقت به ربما لانّه تجربة شعرية سيرية لأمّه تمس الكيان الإنساني من الداخل و تخص الامومة كتجربة وجودية فريدة . والقصيدة لا تخطئ قارئها. بل تذهب اليه مباشرة دون وسائط ولا مقدمات. فأقبلت بهمّتي عليها كما قال الغزالي وما اظن في الامر براءة. فلا أحد يقرا ببراءة. كما ان لا أحد يكتب ببراءة.
“باسم الأم والابن “
” ضم هذا الديوان الشعري أربع وأربعون قصيدة عبرت عن فكر ووجدان وتجربة شاعر مخضرم، حقق في أعماله الأدبية التوازن ما بين خصوصية التجربة وعمومتيها. التي تفتح الباب واسعاً أمام انهزام الروح العربية، وانغلاقها على نفسها، ولكن “نصر الله” يفتحها برفق ووداعة ليبث فيها روح الحياة؛ فنتعلم منه أن الشعر والحياة صنوان لا يمكن إلا أن يكون فيه الشعر رفيق أحزاننا وأفراحنا، عندئذ فقط تدخل القصيدة إلى قلوبنا وتتفتح أساريرنا بنشوة إرادة الحياة.”
” باسم الأم والابن “
عنوان يصنع الدهشة في ذهني ويُحدث الصدمة في تماهيه مع نص قبلي ” تراثي “: صدمة معرفيّة، توقظ الذاكرة بوعي اللحظة الى قراءة او اعادة قراءة التاريخ، بعين نقديّة، تستقرئ وجود الانسان وتعيد احياء الاسئلة.
“باسم الأم والابن ” تحيلني مباشرة على:
الثالوث الأقدس “الآب والابن والروح القدس “: ولو ان هذا الثالوث يرمز الى الإله الواحد في ثلاثة أقانيم. في بعض تأويلات الانجيل.
الا ان ما يهمني ليس المعتقد ولا تأويل المعتقد. بل ان استبدال كلمة الاب بكلمة الام لا يمكن ان يمرّ بريئا في وعي اللحظة الشعريّة. وفي استقراء التاريخ والماضي قراءة ميتافيزيقية على الأقل في مستوى اوّلي. واقعا تحت صدمة الاحالة الدينية ليعيد سؤال وجود الانسان وماهيته. قراءة تتصل بمولّدات التاريخ الزمانية والمكانية وتتصل بذاكرة الفرد وتكشف ضعف الكائن وقوّته في آن. وتمعن في اعادة صياغة السؤال: لماذا يؤنث العالم مرة ويذّكر مرة اخرى؟ اليست هي موازين قوى تتبادل المواقع والادوار. يسطو بعضها على بعض في صراع وجودي أبدى … علّ الشاعر يحاول رتق جرح معرفيّ قديمْ لسدّ فجوة القطيعة الابستمولوجية في تماهيه مع نص قبلي تراثي؟
ويتمثل العنوان مرة اخرى امام عيني بقعة ضوء حدسيّة يعيد من خلالها الشاعر انتاج الواقع وفق اللحظة الشعرية في التماهي معه او الانقلاب عليه؟
يذكرني بذلك الانقلاب التاريخي الكبير: الذي استبدل سلطة الإلهة الانثى (أشهرها عشتار الام الكبرى عند البابليين والسومريين أكثر الالهة انتشارا وايزيس الام الكبرى عند المصريين وصولا الى العذراء مريم آخر ام كبرى …) بسلطة الاله الذكر في ميثولوجيا الشعوب القديمة وصولا الى الشعوب الحديثة أي الانتقال من المجتمعات الأمومية الى المجتمعات الذكورية.
الا تكون القصيدة هنا بهذا العنوان الرمز:” باسم الام والابن” أي استبدال كلمة الام بكلمة الاب، انقلابا على ذلك الانقلاب التاريخي الكبير وثأرا لعشتار وردّ الاعتبار للام الكبرى التي ازيحت عن عرشها في لحظة توجس وخوف من سلطتها المطلقة كخالقة للبشرية يتدفق العالم من رحمها ويتناسل البشر … ولامرأة الراهن المهانة في ذاتها و في جسدها و في ارضها و في عرضها؟ ولفلسطين المغتصبة.
ان اعتماد العنوان في بنائه الشعري على نص سردي قبلي ينفتح على تأويلات دينية وتاريخية واسطورية تستعاد بوعي اللحظة وتصادمات الذاكرة التي تتفاعل عبر الامكنة والازمنة المتراكمة كطبقات شفافة متنافذة.
ويتحوّل العنوان في عيني لوحة مشهدية ميثولوجية مكوّنة من مستويات رمزية تحيل على التماثيل الاسطورية الاولى التي رسمت الام كإلهة تفيض عنها ومنها مناطق الانوثة و الخصوبة و الامومة: عشتار: الاهة الحب و الخصب و الأرض، انانا – الام الكبرى – و ايزيس الام المصرية الكبرى. ديمتر وسيريس في الاعمال التشكيلية الاغريقية والرومانية …وخصوصاً تلك التي تمثلها جالسة وفي حضنها الوليد الإلهي، والتي بقي بعضها يُعبد من قبل المسيحيين على أنه تمثال “السيدة مريم” وابنها “يسوع”. ومنذ الأزمنة المبكرة يظهر الإله “أوزوريس” إلى جانب إيزيس أخاً أو زوجاً أو ابناً وشريكاً في خصائص الخصب وإلهاً لدورة القمح والإنبات..
” باسم الأم والابن ” مشهد آخر أمّ كبرى في الديانات البشرية لصورة السيدة مريم وابنها يسوع. وتستقر لوحة العذراء مريم تحمل وليدها في يدها في المشهد الخلفي للذاكرة ليتحول العنوان الى مستوى رمزي اخر في ثنائية مشهديّة ميثولوجيه دائما لا يحيد عن عنوان القصيدة. لتكون المرأة صورة للبطولة الانسانية التي تروي الاحداث بوصفها شاهدة عليها وضحية لها في آن. فهي داخل نص القصيدة وخارجها… قارئة ومقروءة… ذاتا قائلة وموضوعا للقول… بملامح القدّيسة \ الضحية. بالرجوع الى الديوان نجد ان الكلمة أعطيت لها في اغلب فصوله:
في حديثها عن ابي
في حديثها عن حبها
في حديثها مع زوجها
في حديثها عن سهراتهما
في عتابها لـه
في حديثها عن نذرها ….
وليست المرأة بريئة في صنع العالم الذكوري وباللغة أيضا. اليست السيّدة العذراء هي التي سلّمت مقاليد اللغة كسلطة للكلام الى وليدها الذكر عيسى وهو في المهد صبيّا. عندما صامت عن الكلام وقد كان باستطاعتها ان تبرئ نفسها باللغة. وذلك ما كان مطلوبا منها قول الصدق.
فأمسكت واشارت الى من كان في المهد صبيّا، لتتبدّل الادوار وتتغيّر المواقع في انقلاب تاريخي كبير اخر … وقد استبطنت خطاب الذكور او انها قد اثقلت الاتهامات والاسئلة كاهلها فأرادت ان تبرئ نفسها استنجادا بسلطة الذكر لمرجعية معترف بها في الضمير الجمعي للمجتمعات البطريركية.
ألا يعيد اليها الشاعر هنا سلطة الكلمة للتأكيد على قدرة القصيدة في لحظتها الشعرية القدسيّة على اعادة الاشياء الى فطرتها الاولى. ويعود الهامش الى المتن الذي يليق به تمردا على السلطة التي ادت الى تغييب المرأة واقصائها واولها سلطة اللغة، في لحظة شعرية فارقة، تبشر بزمن اعادة ترتيب الاشياء المبعثرة في فوضويّ عالم مجنون. او لعلها تؤذن بانقلاب انساني كبير يمهّد له تغييب الاب كإشارة الى غياب سلطة اللغة الذكورية او ضعفها او بداية تغييرها …ومن يقدر على التبشير بذلك غير قصيدة الشاعر:
وهل الشاعر مسؤول عن رتق شروخ التاريخ وجُرح اللغة التاريخي بعدما سلمت الام الكبرى السيدة العذراء سلطة الكلمة الى السيّد الذكر وهو مازال في المهد عندما صامت عن الكلام وامسكت واشارت اليه ….
ومن أقدر غير الشاعر على خلخلة لغة اثقلت موازينَها الهزائم والخسارات والانكسارات المتوالية فمالت وان ما ماتت، شفع لها تاريخها ولكن قاموسها ظل يصرخ على مدى التاريخ بلغة احترازية منعيّة مدفوعة بمشاعر الخوف والرهبة والضعف والاوهام وفي ثقافة امّة تخاف من فكرها و يرعبها السؤال. حتى ضايقت الفكر الانساني بصفاتها القهريّة وضمائرها وافعالها وجعلتنا خارج التاريخ.
من يعيد للغة حياتها غير الشاعر في صياغات جديدة يؤكدها القسم؟ باسم الام والابن مبعدا الاب ولو مؤقتا … لأنه سيعود اليه …. الذي لا يقطع معه تماما ليذكر حلمه: او ليذكرنا بحلمه “
وعن حُلْمهِ بثلاثينَ حرفاً يُـرَتِّـبُها
كي يسطرَ أسماءنا مثلَ طفلٍ بدفترهِ
خلتُ أن أبي كانَ يكتبُ شعراً
ولسنا سوى بعضِ أشعارِهِ”
لتسهم اللغة من خلال التراكيب والصياغات التي اصطنعتها البطريركية الذكورية كأداة للهيمنة على الانثى وكل المستضعفين في الارض هل تسهم اللغة في تعديل كفة الموازين؟ وتخلصنا من “عنف اللغة “.
ويؤكد ذلك العنوان الذي يبدا بالقسم كما في مفتتح السور الدينية والبسملة كفاتحة للقراءة. ليعيد الشاعر بهذا القسم ترتيب الاشياء بداية الكلام وبداية الشعر وبداية القراءة
وتكون الام اول الحكاية. الم تكن هي الحكّاءة الاولى وهي تعلّم ابنها ابجدية الاشياء واسماءها بوعي ما ينطوي عليه هذا الترتيب قيميّا من اهمية وقداسة ليضع الام في المشهد الاوّل على الحافة القريبة من المشهد الذي يستعيد قصّة مريم في معاناتها وعزلتها ووحدتها وغربتها ….
فهل يميز الشاعر بعد عتبة العنوان بين حالة القداسة التي تضفيها وظيفة الأمومة وبين الدور الذي يتصل بالأنثى حيث تسهم اللغة على اقتصارها على البعد البيولوجي الى تناقض مؤداه الغاء كينونة الانثى والغاء انسانيتها ومشاعرها …. التي اقصيت بفعل البناءات الخارجية للنص التي تجعل من المرأة موضوعا للقول وتلغيها كذات قائلة. وهو ما أطلق عليه جون لوسركل ” المتبقي” وهو الجزء الغريب والفوضوي من اللغة الذي نستعمله جميعا ولكنها تقيّد المتكلم بظواهر اجتماعية ونفسيّة محددّة وتمثل “عنفا لغويا “
:” باسم الام” ايحاء بالقسم المقدس عتبة عوالم تفتح على المقدس.
ولا شيء مقدس غير اعطاء الكائن \ المرأة انسانيتها وتخليصها من دائرة الهامش ….
” أن تكون ابنها …. ذاك شيء كثير
فلا بلغ الحدّ يوم هنا سيّد او امير “
نحن هنا امام نوع جديد من السلطة يبشر به الشاعر. أمام مفهوم جديد للسلطة الأموية ليس سلطة سيّد او امير. انه مجد من نوع اخر يتجلى في تخصيب الشعر بالسيرة، (لا ننسى الروائي الذي يكمن في الشاعر والذي يمده بكل اشكال وادوات السيرة ليخرج لنا قصيدة سريرية) لتعيش القصيدة كأغنية في الشفاه وامنية في القلوب. فجاء هذا الديوان ليشكل سيرة شعرية لأمّه قائمة على وحدة الحالة الشعورية يرى من خلالها جميع الأمهات، وبالأخص الأم العربية بحمولاتها البدائية والمعرفية والروحية، في إشارات دالة على الحالة الفلسطينية بالمعنى الأشمل للكلمة.
وإذا كان الإنسان ابن تجربته ف” إبراهيم نصر الله” من الشعراء القلائل الذين عاشوا تجربة الناس، وتواصلوا معهم، فالإبداع لا يمكن أن يكون إلا فعلاً إنسانياً ينبع من التجربة العامة الإنسانية. كما استفاد الشاعر من تجربته في السرد الروائي أيضا.” استفاد الشاعر من تجربته في السرد
شهريار الذي يفتّك سلطة الحكاية
و” أهمّ نقطة على الإطلاق هي الحكاية.. إنَّ الحكاية هي كلّ شيء” – كما يُعبّر هنري جيمس في “نظرية الرواية” – ص79.
السيرة هي ان تروي حكايتك وسيرة حياتك او حياة شخوص اخرين او هي تطال المكان أيضا. كأن تروي سيرة المكان، متجسدا في هذه المدينة او تلك
وفلسطين سيّدة المكان هنا.
وفي ” باسم الام والابن” نتصور في الاول انها حكاية أمّ مع ابنها. فاذا الحكاية حكايتان طبق ثنائية الولادة والحياة …. بل تصبح حكايات … حكاية الام، تصبح حكاية الاب ايضا وحكاية الاخوة، حكاية البيت، العرس، الموت …..
تتناسل الحكاية الى حكايات حتى لكأن انتهاءها يبدو مستحيلا وليلها لا ينتهي إلى صباحٍ، بل لعلّه يبدا في الليلة الواحدة بعد الالف. ولا عجب ان تبدأ مع الشاعر السارد الحكاية لان شهريار الذي ملّ اتكاءه على جنب الحكاية والسهر على حبل تشويقها قرر ان يفتك في الليلة الواحدة بعد الالف زمام الحكاية وان يأخذ زمام اموره بيده. بل ان يفتك الصولجان والمحجن من يد عشتار ايضا ويصعد على عرش الحكاية بعدما أيقن ان لا سلطة غير سلطة الكلمة ولا امتلاك للرقاب بغير سلطة الحكاية وتشويق السرد ليخرج من دور المتلقي الذي قتلته سلبيته بسيف الجلاد قبل ان يقتل به نساءه الخائنات. فما الخيانة سوى التنازل والتخلي عن الكلمة. عن عرش الكلمة وسلطة القول التي ضاعت من القصيدة وفرت من الارض وتنازلت عن كرسيّ العرش …
ها هنا يعيد لها الشاعر مجدها. يعيد مجد الحكاية في عريش القصيد ليست الحكاية حكرا على الرواية هو الذي خبر الاثنين اقصد الشاعر والروائي ابراهيم نصر الله.
المهم ان يتناسل في دمنا السرد سرد حكاية الاجداد الى الاولاد وان لا تكف فلسطين عن رواية حكايتها بألف شكل وشكل وفي ألف ليلة وليلة وما بعدهما … المهم ان لا تفقد الكلمة سلطتها في زمانها وعصرها المراوغين. وكلّ حكاية في أبجدية عسيرة، تُقرأ بعدَ الكلماتِ، وتثيرُ ما بعدَ الخيالِ.. وكأنَّ الشاعر – السارد – يعيد عبارة “عمانويل شميت” في طقوس الكتابة: ” أنا أذهبُ بالمجاز لأبعد من الأسلوب، إلى الدراما حيث العملية السرديّة ذاتها” …!
من قال ان جدّنا شهريار لم يكن يحلم بدفتر اشعار؟ ولذلك افتك سلطة الكلمة من شهرزاد في غفوة منها. عندما غدرها الصباح وهي في نومة العسل في خدرها وقد طال نومها …
فليكن حلم الجدّ شهريار الذي افتك سلطة الكلمة عندما سكتت شهرزاد (وما منعها من الكلام غير الخمول والخدور) إذا في القبض على حفنة الحروف تلك، كالقابض على جمرة في زمن تتحلل فيه الارض تحت اقدامنا الى رماد وتنطفي الشمس خجلا من سمسرة التجار في الخيام وتحت مظلات المعسكرات.
يقول الشاعر إبراهيم نصر الله:
” الحكاية لا تنتهي عندما تنتهي، الحكاية تبدأ،
وحين تبدأ، يكون عليها أن تواصل هذه البداية إلى بداية أخرى. .
أنظر ورائى ، فلا أرى نهاية لشىء ، وأنظر أمامى فلا أرى سوى سلسلة من الحكايات …”
هل هي حكاية فلسطين ام حكاية الأرض ام حكاية الأم الكبرى (عشتار) ام حكاية الانثى المغتربة في لغة احتفضت بالمتن وتركت لها خربشات الهامش؟ وهي الحكّاءة الأولى.
ام حكاية الشاعر والذات الساردة تكرّر أسئلة البدايات وقصة التكوين ولكن بألف شكل وشكل ومحورها فلسطين التي بدات تتجاوزها الأسئلة الى أراضي أخرى مغتصبة.
أم أسئلة الشعر الذي لم يكن يوما ابنا للهزيمة ولم يعترف بها بل تجاوزها الى التبشير بنقيضها ورفض الإقامة بين جدرانها البائسة لأنه ابن الأرض في مطلقها و انتماءه في الأخير للحياة. ذلك دور الشعر في علاقته بالحياة. كما رفض إبراهيم نصر الله التسليم بالهزيمة التي يعاني منها عالمه العربي والانسان العربي المنكسر المحبط في حلمة أولا لذلك هو يقول:” لنبدأ من حلمنا أولا “
مصرا على ان يغني للحياة ويسعى الى تحقيق حلم الانسان حلمه الكبير بمستقبل ينتصر فيه الإنساني على الانسان