إبداعات
صــــــورته
قصة- سمير الفيل:
ما الذي جعلني بغير إرادة مني أفز من نومي قبل أن تدق السادسة صباحا؟ أتحسس ذقني النابتة كشوك القنفذ . أرفع عن بدني الغطاء ، وأتجه من فوري إلى الحمام . أوارب ضلفتي الشباك ، وأضغط زر النور مغمضا عيني عن الضوء الباهر ، أمد يدي شبه منوم باحثا عن ماكينة الحلاقة على الرف الزجاجي ثم بعد دقائق أخرج مشدود القامة لأبصر أجسادهم الصغيرة ملتفة بملاءات رقيقة تعتذر للشتاء عن تأخره ؟.
أصفق الباب خلفي ، وأتحسس عظام الترقوة ، وثقل البيادة التي خلفتها منذ أزمان ؟ هل هو نداء خفي أم توق عارم أن أذهب إليه وأحدثه مثلما كنت أفعل حينها ؟.
لماذا هذا العسف وروحي مثقلة بنظرته المحددة ونداء متخاذل يشدني إلى قاع الجب؟ حين انشق الصمت بقذيفة عمياء ، واجهت الموت والعجز ، إذ غلت الرمال، وغطى وهجها وجهي.
لم أر منه سوى أشلاء منثورة تصرخ مطحونة في كمد وغيظ، والجنازير تدور ، والتروس العملاقة تصخب.
يدي تهتز بفنجان القهوة البني ، وشمس الصحراء تدبغ جلدي . قالت لي نظرته الوجلة : ” لا تنس أن تكفنني !” .
لم أفعل لأن الزرقة بانت آفاقها المحترقة تضغط على صدورنا بنيران كثيفة . همس الشاويش فتحي :” ننقل الموتى ازاي ، والرمل الطاهر يتاويهم ؟”.
قماش الأفرول الكاكي تمزق تحت الأبط . إندلع ألم هائل في الحلق ومرارة ، قلت ولم يسمعني أحد : “نكفنهم، ده لحمنا الغالي”.
ارتجفت شفاههم اليابسة ، قال الشيخ يحيى : “الرمل غسيل طاهر، والرمل كفن “.إلتف شريط أسود حول الصورة في إطارها الخشبي . كانت نظرته حزينة، وضعت يدها في حجرها وهزت الرأس: ربنا يغفر له.
ولم تمسح الأم دمعة تسللت للوجه الشاحب الهضيم .
هي ـ المرأة الشابة ـ التي تقدمت مني ، جلست في مواجهتي تماما : ” محارب حس بألم ؟ ندهني قبل ما يودع ولا نده العيال ؟ “.
شفتان يابستان تتحركان باللوعة والأسئلة . اختلط لحمه في النقطة 145 بالأرض الرملية وشجيرات الصبار القزمية ، وخنافس سوداء تجري مجنونة بالضجيج ،وأربطة الميدان ، وجثث الدبابات الخرساء تفوح منها رائحة تزكم الأنوف . على عتبة البيت رفعت وجهه الصغير أتأمله . من فرط تشابهه مع أبيه أنكرته !.
ضحك نفس الضحكة لكنها كانت خالية من خشونة ألفتها ، سألني : “معاك حاجة حلوة ؟ “،
ندت عن صدري تنهيدة ، أخذته من يده وهبطت السلالم.
عند البقال كانت صورته أيام الشباب مع أولاد الحتة بنفس ابتسامته الأخاذة خلف الزجاج مثبتة . تأملتها ، قلت لصاحب الكشك : ” إديني شيكولاتة بسرعة ” . امتدت يدي بالنقود ، نسيت في اضطرابي أن آخذ الباقي، قلت في نفسي سوف أظل حريصا على زيارته.
اليوم كم من الأعوام مرت ولم أره ؟ جاء الجرسون وتناول حسابه سألني : ” تطلب حاجة تانية ؟ “.
نظرت حولي، كان يوم عطلة ، والراديو يذيع أغاني حماسية، وحناجر تصرخ ، فتنهمر كلمات زنة ألف رطل، تناثرت شظاياها في عقلي ، تطحن مشاعري بضراوة لا قبل لي بها .
هبت ريح باردة ودقت ساعة الميدان السابعة ، قلت : ” لعله انتهى الآن من الجامعة ! “
ناوشتني الذكرى ركبت المترو على غير إرادة مني ، وقهوة الصباح البنية حركت أحزاني القديمة .
هبطت في الميدان ، وتهيأت لرؤية البيت . تفحصت المكان فلم أجد له أثرا . سألت وعلمت أن صاحب البيت استخرج رخصة بالهدد ، وأن الأسرة التي كانت تسكن بالإيجار نقلت عفشها منذ أعوام ورحلت إلى جهة غير معلومة .
في المنحنى واجهني كشك البقالة . كانت الصورة مازالت مثبتة ، وقد أكلت الشمس نضارة الوجوه ، ومحت الملامح . اشتريت قطعة الشيكولاتة ، وسرت على غير هدى أبحث في الطرقات .