مقالات
عبد الوهاب البياتيّ ثانيةً ..
بقلم الشاعر الدكتور:علي جعفر العلاق
كان البياتي موضع خلاف بين الكثير من النقاد والشعراء والقراء ، فهو، إنساناً، حاد الطبع وذو لسان جارح، أما شاعريته فلم تكن محل إجماع دائماً. ولهذه الأسباب ربما لامني بعض الأصدقاء لأنني اخترت البياتي موضوعاً لرسالة الدكتوراه، وكنت أرى في موقفهم هذا ظلماً كبيراً له، من جهة ، وسبباً كافياً للكتابة عنه من جهة أخرى. كنت أراه ضحية مزدوجة لأصدقائه وخصومه على السواء. لمَن أفرط في تدليله دون مراعاة لحق الشعر خالصاً من أي دافع آخر، ومَن بالغ في إلغائه أوتجاهله بدوافع غير شعرية. وليس هنا أشد فتكاً بالحقيقة أكثر من التقديس المطلق لشخص ما أو المبالغة في محوه في استسهال لا يعرف المراجعة ..
لا شك في أن البياتي كان يمتلك لغة شعرية مميزة، لغة قد تفتقر إلى الصقل والصفاء أحياناً، لكنها حارة ويومية ولا تخلو من جاذبية في أحيان كثيرة. كما أن له قدرة عالية على تذويب اليوميّ والأسطوريّ في رؤيا متوترة. وكان شديد الاحتفاء بالإنسان في صراعه المجيد، منذ بدء الخليفة، ضد الألم والامتهان. وللبياتي إنجازات لا تخفي في استخدام الأسطورة، والأقنعة الدرامية، والتناصات الحيّة مع الأسلاف.
ويمكن القول، دون مبالغة، إن لطريقة البياتي، أو أسلوبه، سحراً خاصاً على شعراء كثيرين ومن أجيال مختلفة. وفي فترة من الفترات كان القادرون على مقاومة تأثيره قليلين جداً. لا يقتصر ذلك التأثير على شاعر بذاته، في مرحلة البدايات خاصة. لا نستثني من ذلك التأثير حتى شاعرين مهمين مثل سعدي يوسف ، ومحمود درويش ، ولقد ترك البياتي في ذاكرة قرائه صوراً شديدة الجاذبية لمسيرته الطويلة؛ فهو سارق النار، وهو مجنون عائشة، وهو عاشق لارا، وهو شاعر المنفى والمشاكسات.
ومن جهة أخرى كنت أحسّ بأن حظوة البياتي لدى بعض النقاد قد ألحقت به ضرراً كبيراً لأنها حظوة تبدو مصنوعة أو مخططاً لها أحياناً. أي أن البياتي نفسه لم يكن في معزل عنها؛ وكان الكثير من النقاد يتهافتون على الكتابة عنه، إما لشهرته، أو للإفادة من نفوذه الثقافي. لذلك كانت الكتابات الجادة عنه قليلة إلى حد فاجع وربما يظلّ في مقدمتها ما كتبه كمال أبو ديب، وكمال خير بك، وخلدون الشمعة وبعض كتابات الراحل إحسان عباس.
لقد أردت أن أكتب عملاً يمثلني باعتباري من جيل آخر يختلف عن جيل البياتي: ذائقة ولغة ورؤيا. وقد اتضح لي، بعد ذلك، أن البياتي لم يكن سعيداً تماماً بما كتبته عنه وصلني هذا النطباع عن طريق الشاعر محمد علي شمس الدين ذات جلسة من جلسات جرش في منتصف الثمانينات ؛ فقد عوّده الكثيرون من نقاده على الاحتفاء به أو تدليله دائماً: كانوا يتلقفون كل ما يكتبه بانبهار وتأليه عجيبين حتى جعلوه يحس بأنه فوق النقد، وأن كل ما يكتبه باهر، وفذ، واستثنائي. وربما لم يجد الأمر كذلك بالنسبة لي، لأنني حاولت الأصغاء بصدق، إلى نصوصه الشعرية وحدها دونما تهريج ودونما مشاكسة أيضاً.
وهكذا ظلت علاقتي بالبياتي تسبح في منطقة غائمة ، إلى أن نشرت لي جريدة (أخبار الأدب) حواراً أجراه معي محررها مصطفى عبد الله، خلال تدريسي في جامعة صنعاء في بداية التسعينات. ومن جملة ما قلت فيه: إن البياتي شاعر كبير، وإن له ما للشاعر الكبير من أخطاء. وهنا بدأ يصلني بعض من فاكهته المرة التي كان يفصح عنها في مجالسه الخاصة. لقد كان مؤمناً، وبشكل كاسح، بأنه شاعر فوق الأخطاء، وبأنه فوق مساءلة النقاد أيضاً.
وفي معظم الأحيان، لم يكن البياتي يعرف حدوداً لخصوماته تلك؛ فهو يندفع إلى آخر التخوم في مواقفه، دون أن يترك للصلح موضعاً كما يقال. وقد تجلّى ذلك في عداواته التي ظلت راسخة ونهائية حتى وفاته بالنسبة لنـزار قباني، وأدونيس، والفيتوري، وبلند الحيدري، وعبد الرزاق عبد الواحد على سبيل المثال.
للبياتي أساليبه الطريفة والموجعة، أحياناً، في تمرير آرائه أو هجائياته للآخرين. إن أحاديثه مليئة بالإيماءات، والتوريات، والصور التي تعطي لشتائمه مذاقاً خاصاً، مع أنها بالغة المرارة دائماً: فهو قد يتناسى اسم من يتحدث عنه أو إليه رغم شهرته، أو يخطئ في الحقل الذي يمثل اهتمامه الأساسي، أو يشير إليه بعلامة جسدية تضايقه. وإذا كانت مخيلة البياتي قادرة دائماً على تحويل اليومي إلى شعري، فإنها قادرة أيضا على ابتكار الأشكال والصيغ الحسية لشتائمه اللاذعة: فهذا شاعر له شهرة الراقصة، وذاك يشبه حشرة أفريقية، وذلك حصان سقط في بداية الشوط، وهذا ينوح كالمطلّقة، وهؤلاء خراف ضالة!! وهو لا يتورع، أحياناً، عن اتهام خصومه في سلوكهم الشخصيّ، أو أعراضهم، أو وطنيتهم ولا يترفع عن استخدام أكثر المفردات بذاءة في ذلك. ولهذا يمكن القول أن عبد الوهاب البياتي يمثل ظاهرة هجائية لا تجارى. وهذه الظاهرة تنتظم شعره وشخصيته معاً: تقبع في قرارة روحه وفي صوره الشعرية، في الجسد وفي اللغة، في المزاج وفي حرفة الكتابة.
وهو حين يتحدث لا ينطلق على سجيته، ولا تحسه مرناً ومتدفقاً إلا عندما يطلق العنان لمزاجه الناري، ولسانه القادر على الإيذاء. أما أحاديثه في الشعر، أو عنه، فتبدو أحيانا في منتهى الفقر، والإملال، بل تبعث على الضحك ربما ، وهذا الجانب من شخصيته يصلح ليكون واحداً من تناقضاته الكثيرة.
وحين تجالس البياتي فإنك لا تملك إلا الإصغاء إلى خياله الجامح، المفعم بمبالغاته الجميلة ، وفتوحاته النسائية التي تستمتع بها مع إدراكك أنها قد تخلو تماماً من رائحة امرأة حقيقية واحدة. كان الصديق الراحل فاروق عبد القادر يقول: كنت استمتع بمبالغات البياتي، وهو يتحدث عن حظوته لدى النساء، كما لوأنني أمام طفل متوهج المخيلة.
أذكر مرة أنني كنت معه في مقهى بمدريد كان يرتاده البياتي كثيراً. كان ذلك خلال دراستي في انجلترا، وفي عام 1982 تحديداً. جلسنا إلى طاولة مستقلة، كان يتحدث بثقة مطلقة، عن كل شيء : أسفاره، قصائده، أصدقائه، خصومه، وفتوحاته العاطفية.
فجأة التفت البياتي إلى طاولة قريبة منا كانت تشغلها مجموعة من النساء، كانت بينهن سيدة كثيرة التلفّت إلى البياتي الذي أحسّ بذلك جيداً، وهنا قال، وبيقين راسخ: هذه مشكلتي مع النساء دائما، أنهن يتابعنني في كل مكان. ثّم جاء النادل ليخبره أن هناك من يطلبه على الهاتف. خلال غيابه القصير عن الطاولة جاءتني السيدة وسألتني لتتأكد من أن الرجل الذي معي هو البياتي وليس رجلاً شبيها به، ثم عادت إلى كرسيّها. أخبرت البياتي بذلك فلم يتحمل الانتظار، ذهب إلى السيدة بلهفة حارقة، تحدث معها قليلاً ثم عاد إلى مكانه متجهماً: قال، دون أن أسأله، وبصوت مثقل بالخيبة تبين لي من خلاله أن السيدة كانت والدة أحد أصدقائه من المستشرقين الأسبان.
غير أن ذلك كله لا يمثل حقيقة البياتي كلها ، وليس هو نهاية القول في شعره أو حياته طبعاً . إن الشيء المدهش فيه، حقاً، أن له مخيلة شديدة الحيوية، قادرة على أن تحوّل كل هذه التفاصيل العابرة إلى شعر حقيقيّ في الغالب، رغم ما يبدو عليه من بساطةٍ ظاهرة . وهذا ما سيكون، ربما، موضوعاً لتعليق آخر ..