أن يكون لك شجرة لم تلدها أرضك
بقلم الدكتور محمد بن حامد الغامدي-الدمام السعوديه
n استعرت المثل العربي الذي يقول: “أخوك الذي لم تلده أمك”، والذي يستعمل في الإشارة إلى الصديق الصدوق المخلص، الذي تتحوّل صداقته إلى إخوّة، وذلك مناصرة لحق حياة شجرة “البرسوبس” في أرضنا المباركة. وهذا مثل يعزّز الشهامة والشيمة عندما يبحث عنها من يحتاجها فيجدها من ناس ليس بينه وبينهم قرابة. هذا مقصدي من استعارة هذا المثل، وتوظيفه لصالح البيئة وإنسانها.
n إن للظروف البيئية والمناخية والجغرافية والجيولوجية في المملكة -حماها الله- كلمة في موضوع هذه الشجرة، وإن تجاهلها وتغييبها منقصة عظيمة الأبعاد. ويمثل هذه الكلمة مشاهد الفقر البيئي في بلدنا، والتي يسعى البعض تغييبها، أو عدم معالجتها، أو معالجتها من خلال فرض توظيف لبعض النظريات البيئية العلمية في غير مساراتها الصحيحة.
n هذا الفقر البيئي الذي تعاني منه بلدنا يفرض نفسه في جميع المناطق وبتحديات ومشاكل واضحة، بل ويجعل النظريات العلمية المستوردة من بيئات أخرى غير صالحة وتبدو معطوبة، وتفرض علينا ـ كنتيجةــ أن نغيّر مسارها بالنقض وفقا لطبيعة هذا الفقر الاستثنائي وواقع انتشاره ومدى عمقه. ونتيجة لذلك وغيره، تختلف طرق المعالجة والأدوات والوسائل من بيئة إلى أخرى. فلا داعي للتعميم فالتعميم آفة الفكر ومعول هدم المستقبل قبل أن يحل.
n تعميم النظريات العلمية البيئية على كل البيئات يحتاج إلى إعادة نظر من قبل المناهضين لـ “شجرة البرسوبس”. فما يطبّق على بيئة معينة لا يمكن تعميمه على جميع البيئات، فما ينجح في بيئة معينة ليس بالضرورة أن يكون ناجحا في بيئة أخرى، حتى لو كانت النظرية البيئية المطبقة ثابتة علميا، بل أن من العلمية أن يتم تحقيق الانسجام بين النظرية ومجال تطبيقها. لدينا بيئة سعودية جافة، أكثر مساحاتها بدون غطاء نباتي، وتسود الطبيعة الصحراوية بل شديدة التصحّر بشكل أكبر، وهذا يتطلب معاملة علمية خاصة، استثنائية أيضا، ولدينا ـ ولله الحمد ـ تجارب ناجحة، لماذا نتجاهلها؟ ولماذا نهدمها في ظل عطائها وصمودها أمام قسوة الظروف البيئية السائدة في بلدنا؟
n الفقر البيئي من الغطاء النباتي يحتاج لمعالجة علمية تعي أبعاد مستقبل البيئة، وتعمل على محاربة التصحر لصالح الأجيال القادمة، ونرى أن الدعم الخارجي من قائمة الأشجار غير المحلية لكنها مناسبة لظروف هذا الفقر بات مطلبا وطنيا، بل هو ضرورة لتحقق شروط النجاح في عملية القضاء على هذا الفقر البيئي المستفحل. هذا ما لجأ إليه الخبراء المؤسسون في وزارة البيئة والمياه والزراعة، هذا ما حققوه عمليا وعلميا في بيئتنا الفقيرة من الغطاء النباتي.
n النجاح الذي حققوه لم يكن على حساب الغطاء النباتي المحلي السائد، فهم استضافوا شجرة “البرسوبس” في المناطق الأشد فقرا في الغطاء النباتي، وخير مثال: (مشروع حجز الرمال في الأحساء) الذي تحدثت عنه في المقال السابق، والذي اعتمد نجاحه على شجر “البرسوبس”، فأثبتوا نجاح مشروع توطينه في أرض جرداء ميّتة ذات رمال متحركة وخطيرة.
n مع ذلك النجاح، لجأت بلديات المدن إلى (شجرة البرسوبس) في تشجير الشوارع والميادين، وكانت الخطوة موفقة لمواصلة النجاح، لكن الذي حصل أن عملية التشجير تمت تربيتها بطريقة خاطئة لتكون شجرة كبيرة، وهذا ممكن إذا تم تطبيق شروط تحقق نجاح صمودها ووظيفتها في أماكن استضافتها الجديدة. فما الحل لتحقيق الاستمرارية في هذا النجاح؟
n التقليم هو سلاح نجاح هذه الشجرة دون تهشم، فبعد تربيتها لتكوين جذعا قويا مناسب الارتفاع، لابد من تقليم فروعها، لكيلا تشكل حملا ثقيلا على الجذع وعلى هذه الفروع، هذا الفعل يحدث في كل الشوارع في المدن العالمية مع الأشجار، فيتم تقليمها شتاء، بعض منها يتم تقليمه بشكل جائر حتى لا يبقى سوى الجذع منتصبا في الشتاء، ثم في الصيف تنمو الأغصان من جديد، هكذا تكون تربية “البرسوبس” داخل المدن والميادين.
n في الوضع الطبيعي لـــ “شجرة البرسوبس” يجب تركها تنمو في المناطق المفتوحة دون تدخل، بهدف تشكيل غابات وأحراش وأدغال تخدم البيئة وتحقق وظيفة استضافتها في هذه الأماكن. لدينا مناطق جرداء واسعة الانتشار في جميع مناطق المملكة، يمكن لها استضافة هذه الشجرة وجعلها مشروعا ينجح في خدمة هذه البيئات المحلية.
n ما شاهدته في مشروع حجز الرمال قبل إلغائه وتعطيله يضاهي ما شهدته في أمريكا من غابات وأحراش وأدغال في بعض ولاياتها. أيضا شاهدت غابات “البرسوبس” الجديدة في سهول تهامة التابعة لمناطق مكة المكرمة، وعسير، والباحة. البعض لم يتعوّد على رؤية مثل هذه الغابات والأدغال والأحراش، فيعتقد أنها نقمة وهي نعمة يجب الحفاظ عليها وزيادة مساحتها. هل أستطيع القول: إذا تصحّر العقل تصحرت البيئة.
n تحديد نجاح توطين شجرة “البرسوبس” بحاجة إلى استراتيجية تقود إلى التخطيط السليم الذي يقود إلى برامج لمكافحة التصحر وتكثيف الغطاء النباتي حتى باستضافة أشجار يمكن أن تحقق المكافحة بأقل جهد وتكلفة، وبسرعة انتشار أسرع دون ري أو تدخل بشري لتقديم الخدمة. شجرة “البرسوبس” تحقق تلك الشروط. وقد استثمرها الخبراء السابقون الأكثر دراية وحكمة منذ عام 1962 فماذا تغير أيها القوم؟ ويستمر الحديث بعنوان آخر.
twitter@DrAlghamdiMH
mgh7m@yahoo.com