بقلم – نايف مهدي
فلا عجب إن رأيناه يرفض أن يستقبل قطرةً من الوجع في حين أنه لا يتورع عن صبه على الغير صبًا، ويسمهم ألوانًا من العذاب الذي لا يطيقه، فهو ينسى- لا يتناسى- الكثير من الأحداث والوقائع المفصلية، يكبتها ويقمعها في ظواهر نفسية عجيبة، ويستشيط غضبًا عندما يغفل الأشخاص شيئًا يمس ذاته ولو من بعيد. حتى عندما يقف به المقام في مناقشة ما، وبالرغم من أن الجسد البشري يمتلك أداتين للسمع وعضوًا واحدًا للتكلم، إلا أن سطوة ذلك العقل لا تلبث أن تلتقف نتفًا من الحديث الدائر كي تحوك ردًا مفحمًا أو تعقيبًا يستحق الإشادة حسبما يترآى لها.
إن العقل رهينُ مجدٍ شخصي، وأسير اعتقاد ذاتي مفرط الأنا والأنانية السقيمة، فهو مقيم في مرآة تسد عين الشمس لا تعكس سوى صورته، احتياجاته، وهيمنته ورغائبه. فحينًا يتذرع بالفضائل والأخلاق والمثل الاجتماعية، يجلل نفسه بها، يتمترس وراءها، ويمتطي صهوة الدين ويسوق الحكم والأمثال ومباحث الفلسفة حينًا آخر، وحين يفعل ذلك، فإنه يدلل لا شعوريًا على فوزه واستحقاقه لنيل حظوة المكانة في عيون الآخرين لا أكثر، فضلًا عن شعورِ خدرِ الرضا الذي يتسرب في تلافيفه ويسكت جوع أناه المسعورة. إن أداة الفكر هذه لخيل جموح وحشي إن لم يُشدد عليها الرسن- ولا أعلم كيف-فرّقت الشمل، وأتلفت الزرع، وأهوت بصاحبها في مهاوي الخيبة ومزالق الخطر.
صحيح أن للعقل قدرة معقولة على الاحتفاظ بأقل القليل من أطيافِ ذكرياتِ مَن مروا به عرضًا، لكنه يحتفظ بها في صور رمادية باهتة وهزيلة، تتداخل ألوانها، وتسيل ملامحها كالمعدن المذاب، صور خرساء متلبدة ببعضها البعض، لا يكف عن تجريدها من أسماء أصحابها حتى لتبدو كصحون مغبرة على رف خزاف في قرية مهجورة، أما حينما يتعلق الأمر بذكريات اقتربت من حمى قلبه، ووطأت له عرقًا، سواء أكانت تلك الذكريات طيبة أو خبيثة، فهو المسرف الأبي في تذكرها وتقليبها، والإسباغ عليها بمختلف ضروب الشعور والدلالات الطائشة.
وطبقًا للنظرية الفرويدية القائلة بأن محرك سلوك الإنسان هو اللذة والألم، فإن ذلك الكائن يظل لغزًا ملغزًا وسرًّا ملتبسًا بحق، إذ سرعان ما تنقلب اللذة الذي كان يلهث وراءها إلى صفيح من نار تكوي جنبه وجبينه على السواء، فنراه بعد حين يمقت الشخص الذي كان ينادمه كؤوس الوداد، ويخوّن من كان يأتمنه على أقدس أسراره، وفي بعض الأحيان يكره حتى السقف الذي كان يأوي تحته طلبًا للراحة والهدوء. وفي أحايين كثيرة يتحول الألم إلى ملاذ السلوى وراحة البال، فعندما يُتخم المرء بالجراح والخيبات المريرة فإنه يجنح للعزلة والاعتزال قسرًا لا اختيارًا، وما هي إلا بضعة أسابيع حتى يتكيّف مع العزلة والوجع، رافضًا كل الرفض أن يغادرا وجوده وحياته، فعندئذ تصبح لذته هي ألمه والعكس بالعكس. ولو قال قائل إن لغة الحواس هي أصدق وأسبق من سفسطة العقل هذه، فهذه المقولة لها ما يدحض حجتها، فالعقل في الإنسان سابق كل سابق، وبادئ كل بادئ، ولا منجى لأي شعور كان من تدخلات العقل.
وفي مجمل القول وصفوته، إن العقل،بلا شك، هو حارس نظم الأفكار وخازن الخواطر والهواجس الأبدي، لكن يبقى السؤال الأهم: من ذا الذي سيحرس الحارس نفسه؟!