قنطرة
بقلم- نايف مهدي:
تُقاس براعة متون الكتب، أي كتب، من خلال المتعة المرافقة لها أثناء عملية القراءة، وذلك الأثر الذي يبقى حاضرًا متوقدًا في ذهن القارئ على مدى أسابيع وأعوام حتى وإن كانت يداه الآن تحملان عناوينَ مختلفة، وذلك ما كان من أمر رواية الأديب أحمد السماري” قنطرة”.
إذ كانت الرواية تحلّق في فضاء شعري بديع، تهدر كنهر يبحث عن مصبٍ مضاع، تضيء أمكنةً تُغري بولوجها حينًا، وحينًا تفرش الجمر وأشواك التساؤلات على عتبات أخرى، بينما تنكأ المسكوتَ عنه شخوصٌ هشة، تتناوب الأصوات على منصة الأمل والخذلان والإقدام والتقوقع، وكل صوت منها يسير على دربٍ وعر يبطنه سراب نيران مترصدة، وتكتنز منعطفاتها بأقدام تلبّسها الخوف والغياب واللوعة، ومع علمهم التام بتلك النهايات المبتورة، إلا أنهم لا يتورعون، قيد أنملة، عن المضي قدمًا، كأنهم يحاولون إطفاء ظمئهم الجائر بتجرع المياه الحارقة عن طيب خاطر، أو كأنهم يدسون رؤوسهم في كثبان الثلوج هربًا من ضجيج الأفكار وخيبة الواقع. تناولت الرواية معضلات شتى زخرت بها حقبة الستينات والسبعينات داخل نسيج المجتمع السعودي من تفاوت الطبقات الاجتماعية، والتمييز العنصري، وتسيّد الطوائف الدينية المتطرفة المشهد الحياتي بحيث يطؤون تحت أقدامهم أي فكرٍ وفن ونبوغ يخالف معتقدهم الدوغمائي المنغلق.
ظلت حارة “الطرادية”- كما العديد من الأحياء الشعبية المهمشة في أحشاء المدن الفارهة- تستميت في نشر ثياب أحلام القابعين أو المنفيين فيها على حبال قلوبهم انتظارًا لمجيء الشمس، التي حجبتها بنايات الحداثة الشاهقة واستأثرت بدفئها، ولكن مهما يكن من طغيان البؤس، فلا بد أن تبزغ شمسهم يومًا ولو على أسوار حاراتهم الطينية، وكراريس دفاترهم.
امتازت الرواية حقًّا بالجرأة، والمكاشفة الخالية من الرتوش، وبعث العديد من الأسئلة- التي ما زلنا إلى اليوم لا نجد لها جوابًا شافيًا- على لسان وحيد الوحيد إلّا من العثرات وانكسار الذات، وسارة عنبر التي وصمها سواد جسدها واستشراء المرض وتخلي الأحباب واحتقار المجتمع، وسائر الأصوات التي تولت مهمة السرد وهي تكشف لنا، بيدين مرتخيتين، مواطن الجروح التي حلّت بأجسادهم، وتموضعت في عمق أرواحهم كندبة لا تزول. هم لا يعدون أن يكونوا وجوهنا القلقة، وكفوفنا التي تتلمس الحُلم، وأصواتنا التي التصقت بزجاج مضبب في بيت مرايا موحش على طريق منعزل. أعتقد أن قنطرة قادرة على تخليد نفسها في روائع الأدب السعودي والعربي باقتدار.